في التحليل الصحيح لما يحصل في الحرب على غزة منذ السابع من اكتوبر 2023 , ومايحصل في الحرب بين روسيا واوكرانيا , تبرز امام الرأي العام الدولي والرأي العام في منطقة الشرق الأوسط , تساؤلات تلقائية عن حقائق واسبابموقف الولايات المتحدة الداعم وبشكل غريب ومستمر للكيان الصهيوني , ولكن الذي يهم القاريء العربي هو مايخصمنطقة الشرق الأوسط حاليآ على الرغم من وجود علاقة بين مايحصل في روسيا واوكرانيآ وبين الحرب على غزة بسببيراه فقهاء السياسة ان محور السياسة الخارجية الأمريكية هو الكيان الصهيوني المؤثر في السياسة الأمريكية منذ انتهاء الحرب الباردة ,
ولكن السياسة الأمريكية لم تكن منذ فترة الرؤساء ترومان والرئيس آيزنهاور وجون كندي بهذا المحور كما هي في هذه الأيام , والإرث السياسي الذي تسلمه فيما بعد الرؤساء الثلاثة وهم كلنتون وبوش الأبن وأوباما , لم يتغيّر من ناحية رفض بعض مواقف الكيان الصهيوني من قبل تلك الإدارات , فعلى سبيل المثال رفض هؤلاء الرؤوساء سيادة دولة الكيان على القدس الشرقية والجولان , بل اعتبروا الإستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير شرعي وفقآ لقرارات هيئة الأمم المتحدة ذات الصلة .
وكذلك رفض الرئيس ترومان من قبل اعترافه بسيادة دولة الكيان على القدس الغربية على الرغم من اعترافه بتشكيل الكيان عام 1948 , وكان عدم اعترافه بالقدس رغم وجود اعضاء يهود في إدارته حاولوا دفعه الى الإعتراف بها , ولكنه لم يفعل . اما الرئيس ريغان فقد رفض غزو لبنان من قبل دولة الكيان بعد ان تسبب الغزو بأضرار سياسية وعسكرية جسيمة هددت المصالح الأمريكية في المنطقةاسوة بالعدوان الثلاثي على مصر في حقبة أيزنهاور الذي قابل الغزو الصهيوني – البريطاني لسيناء بالإستهجان ,علمآ ان الإتحاد السوفيتي هدد بضرب بريطانيا وفرنسا ودولة ان لم ينسحبوا من الأراضي المصرية دعمآ لها .
بهذه الحرب على مصر انقلب الإرث السياسي الأمريكي ,لأن امريكا وجدت ان ادخال دولة الكيان في تشكيل محور لسياستها الخارجية , سيكون عاملآ مهمآ لإستقرار منطقة الشرق الأوسط , واليد الضاربة لأي تهديد لمصالحها ونفوذها السياسي فيه , كما وتكون كالحائط يحول دون اقتراب الروس الى المنطقة ,
ووفقآ لذلك تم ضرب المفاعل العراقي عام 1981 , وضرب ايران واذرع المقاومة في العراق وسورية ولبنان اثناء الحرب على غزة , وتسبب هذا المحور فيما بعد ان تكون دولة الكيان اكثر تأثيرآ على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية , والحقائق والأسباب آنفة الذكر هي :
الحقيقة الأولى
عندما يتداول مصطلح ” اللوبي الصهيوني ” بين المعنيين بالشأن السياسي بشكل عام , فالمقصود هو ” مؤسسة السياسة الخارجية ” التي تعمل بالأيديولوجية الصهيونية , وهي بمعنى ادق تمثل الجناح السياسي للحركة الصهيونية داخل امريكا , الذي يقتحم اذهان جميع من يصنع القرار السياسي الذي يتوافق مع الحركة الصهيونية لكونهم يشكلون احيانآ اغلبية مؤثرة في اداء الإدارة الأمريكية , وهذه المؤسسة هي من صنعت ” لجنة الشؤون العامة الأمريكية – الإسرائيلية ( أيباك ) – وهي بمثابة ممثلية للصهيونية واقوى تنظيم وضغط على سياسة الإدارة الأمريكية داخل واشنطن , مهمتها تكسب اعضاء جدد موالون للحركة الصهيونية كقواعد انتخابية قبل اجراء الإنتخابات , ليكونوا اعضاء في الكونغرس من بين الشعب الأمريكي ليمارسوا الضغط على قبول القرارات ذات الصلة بأمن الكيان الصهيوني ,
هؤلاء الأعضاء الفائزين بالأنتخابات هم الذين يشكلون اللوبي الصهيوني السري الذي يضغط على الحكومة الأمريكية لتنفيذ جميع القرارات الداعمة للكيان الصهيوني, وفي حالة اي رفض لها من قبل أي عضو سواء بالكونغرس او بالإدارة فيستحضرون له ثوابت وحالات من التأريخ اليهودي تتجسد بها معاداة السامية ليلصقونها به لإجباره على الرضوخ , وإذا أصرّعلى الرفض لايجد نفسه مرشحآ للإنتخابات اللاحقة , وقد ذهب البعض من السياسيين الأمريكان الرافضين لهذه الثوابت على تسمية ذلك الأسلوب ” بعلم اجتماعي فقير وشحيح وأحادي السبب “ .
الحقيقة الثانية
ليس من المدهش للقاريء العربي ان يعرف ان اغلبيةالسكان في امريكا هم من اليهود والمسيحيين الأنجيليينالأكثر تمسكآ بسلطة الكتاب المقدس وتحفظآ في معتقداتهم الأجتماعية , أما غالبية اليهود فهم من الإصلاحيين والعلمانيين ويشكلون 65% من السكان بشكل عام , وهؤلاء لايوافقون الصهاينة على توسع دولة الكيان في الضفة الغربية , لذلك تجد اليهود الذين تقل اعمارهم عن 35 سنة هم الأقل كشفآ عن تعريف انفسهم كصهاينة , اما اليهود الأكبر سنآ والأكثر تحفظآ لا يمثلون الهيكل الليبرالي للرأي العام اليهودي الأمريكي تجاه دولة الكيان ,
ولكن لهم النفوذ الكبير كون اغلبهم من اصحاب الصحف والإعلام و الصناعات الإقتصادية لدى السياسيين اليهود داخل امريكا ويعبرون عن رغبة قوية في التصويت لقضية دولة الكيان فحسب . من هنا بدأ التقاطع بين الأديان والحركة الصهيونية , لأن الأخيرة استغلت محور التشكيل ليكون عامل تطور لأيديولوجيتها السياسية التي تخدم بقاء دولة الكيان بين الأنظمة العربية من ناحية , وعامل تطور لسكانها اليهود ليتحقق عامل المساواة بين اليهود والأمريكيين في النواحي السياسية والإقتصادية من ناحية اخرى .
تأتي بعد ” أيباك ” رابطة المتقاعدين الأمريكية والأتحاد الوطني للأعمال المستقلة , وتشير السياسة الأمريكية ان ” أيباك “ بالدرجة الأولى ليست الرابحة في الكثير من محاولات اقرار القرارات الداعمة لدولة الكيان , ولكن تبقىكأقوى جماعة ضغط سياسي على مقررات الإدارة الأمريكية, على الرغم من انها تدفع الحكومة الأمريكية احيانآ الى تنفيذ القرارات الداعمة وإن كانت غير مناسبة للمصالح الأمريكية ,
وهذا مايحدث الآن في الحرب على غزة , فجميع القرارات الداعمة التي هزّت الشرق الأوسط ومنها شحن الأسلحة والذخائر والمعونات المالية وآخرها ال 100 مليار دولار التي اقرها الكونغرس الى دولة الكيان واوكرانيا وتايوان , هي ضد مصالحها الإقتصادية , ولكن نصيب الإدارة الأمريكيةفي مقابل هذه المعونات هو ماخرج , اثناء الحرب على غزة , من افواه المسؤولين من تصريحات لاتغني ولاتسمن موقفها السياسي الضعيف امام دولة الكيان والعالم , بل كانت تصريحات متناقضة الهدف منها ان تحافظ على ماء وجهها وهيبتها امام العالم فحسب . هؤلاء المسؤولون اكثرهم صهاينة وخاضعين لنفوذ ” أيباك ” , لذلك كانت تصريحاتهم جوفاء لذر الرماد بالعيون ليس إلا , واحيانآ يتم ابداعها للضحك على اذهان الشعوب وخاصة حكام المنطقة العربية , الذين اجتهدوا على تصنيع مثل تلك التصريحات ليطلقونها مسايرة مع بورصة السوق السياسي الذي صنعتة امريكا في الحرب الوحشية على غزة , إن صح التعبير , للتغطية على صمتهم وفشلهم في دعم غزة كونهم من فئة الحكام العرب المطبّعين مع الكيان الصهيوني.
ختامآ , ليعرف القاريء الحصيف ان تطويق اذهان اصحاب القرار السياسي والدخول في كبسولة صنع ذلك القرار , لايتم إلا بصنع حزب او لجنة مقبولة من بين صفوف اي شعب متعدد الثقافات او الديانات لتشكل مكونآ سياسيآ قادر على دخول اي نوع من الإنتخابات , ومن هنا تنشأ التوافقات والمحاصصة البغيضة في الحكومات المتشكلة ,
وهذا مانحت اليه الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية وتسببت ليس في تفتت الديمقراطية فيها , بل في تهديم صرح الحرية المعنوي وتفريغه من معناه , لأن تعدد الاحزاب بالسلطة المركزية لايمكن ان يلائم اي نظام ديمقراطي , لأن الاحزاب سلاح ذوحدين , فهي مرة تصنع تداعيات مهددة لكل شيء بالبلاد عندما توظف تقاليد دينية تحول دون انسجام طبقات الشعب معها , ومرة تشكل محاور وتحالفات على حساب مصلحة الشعب والوطن ,
وهذا ماحدث في امريكا , فالحركة الصهيونية المتجسدة بالمؤسسة السياسية الأمريكية , لا تتوافق مع المسيحيين الأنجيليين ولا مع اليهود العلمانيين واليهود السفارديميين والأشكيناز واليهود غير التابعين لأي طائفة يهودية , وبهذه السمة من المستحيل ان لا تصل الى مرحلة الإستبداد السياسي كما يحدث الآن في دعمها لقرارات دولة الكيانالعنصرية , وفي اي دولة بالعالم بهذه السمة اللعينة ,
لذا فإن الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الخاضعه لهذا النوع من اللوبي او ذاك , لابد ان يتطور نظامها الديمقراطي الى استبدادي مجرد من الإنسانية وتوافقي وبسِمة التحالفات والتوافقات , ولايدعو الى الإعتدال في اتخاذ القرارات ولاينجو من احاطة كبسولته الفكرية اصحاب تلك السمة للوصول الى اهدافهم السياسية .
بهذه الصور من الشرح الطويل , ندرك ان سبب دعم الولايات المتحدة المستمر للكيان الصهيوني منذ عملية طوفان الأقصى , هو ان الولايات المتحدة الأمريكية فقدت هويتها المسيحية ذات التقاليد العريقة بتأثير تلك الحركة العنصرية المهيمنة على القطاع الإقتصادي والصانعة للقواعد الإنتخابية المتحيّز للقرار السياسي الصهيوني ,
وها نحن العرب , في مواجهة هذه الحقائق ومعها محنة الفيتو الأمريكي – الصهيوني , إذ لايوجد لها حلآ إلا بقدرة إلهية او حرب عالمية ثالثة تمحي احجار الحضارات وتحرق الأخضر واليابس , لذلك من العرب من تشكل منهم فريقآ وطّن نفسه على تلك الحقائق والأسباب بذلة وخيانة , ومنهم من آمن بالعدل الإلهي فقال قول الشاعر:
وأعلم وأيقن أن مُلكك زائل واعلم بأن كما تُدين تُدان