18 ديسمبر، 2024 5:41 م

من وحي شهريار وشهرزاد (9)

من وحي شهريار وشهرزاد (9)

حينما نخطئ بحق من نحب
شهرزاد : كثير من علاقاتنا يصيبها الجفاء بعد طول مودة ، وفي غالب الأحيان لا نعرف سببا مقنعا ، فهل من وصفة لدوام محبة الناس؟

شهريار :لا أتفق معك حقا على عدم وجود أسباب مقنعة لانقطاع شريان المحبة مع الناس ، نحن نظهر محبتنا ونسعى جاهدين للتعبير عنها غير أننا ننسى او نتناسى مواقف متكررة قطعت خيوط الوصل خيطا بعد خيط حتى انفرط عقد المحبة حينها يصعب جمع حبات اللؤلؤ .

وفي شعر العربي :

وَاحْرَصْ على حِفْظِ القُلُوْبِ مِنَ الأَذَى … فرجوعها بعد التنافر يصعب

إِنّ القُلوبَ إذا تنافر ودُّها … شِبْهُ الزُجَاجَة كسْرُها لا يُشْعَبُ

وشَعَبَ الإِنَاءَ بمعنى أَصْلَحَ صَدْعَهُ.. وقد أحسن القائل بذلك الوصف العميق ، وكلنا يعلم إن الزجاجة إذا انكسرت صار محال جمعها ألا اذا أذيبت بنار وأعيد تشكيلها ،وذلك أمر في غاية الصعوبة يخلف عيوبا وإعوجاجا في تلك الزجاجة ، وقيسي على ذلك إعادة المودة الى سابق عهدها بعد اكتواء القلوب بنار إصلاح ماانكسر ، وبدلا من ذلك دعينا نحاول أن نتمسك بها ،وأن نحافظ على خيوطها مجتمعة مرصوصة كحبل متين .

نحن نخطئ بحق من نحبهم في لحظات غضب ،او بفعل أحمق لا نلقي له بالا ، او لفظ سيء يصيب أعمق نقطة في نفوسهم،وبطبيعة الحال لا نستطيع أن نتوقف عن ارتكاب الأخطاء، لكننا قادرون على زيادات جرعات المودة لتكون بلسما لكل جرح وعلى قدر تمسكنا بتلك المودة يزداد عطاؤنا ، فمحبة الناس كنهر لا يتوقف عن المسير ، وعلينا دائما أن نرفده بما أسميه (إطلاقات المحبة ) تماما كإطلاقات المياه الوفيرة من السدود والبحيرات لدوام مياه النهر .

تلك الإطلاقات تنفذ الى نفوس الناس قبل أجسادهم، وتجعل محبتنا في قلوبهم ندية مفعمة بالحياة ، فإن أصابهم كدر من سوء أفعالنا ، او ألفاظنا ، غسلت أدرانها الأطلاقات المتدفقة بلا توقف .

ولتلك الأطلاقات قواعد تحافظ على ايصال معاني المحبة الدائمة الى قلوب الناس (فكل ما كان مفتاحا للمحبة فهو سبيل لدوامها ) وقد تحدثنا عن التواضع والإهتمام والتأثير الإيجابي ، ويمكننا في هذا المقام أن نذكر لباقة الحديث والإحترام الدائم ،ومحاولة تفهم مشاعر الآخرين بإعتناء متواصل ، وإن للإهتمام ببعض الأشياء الصغيرة إطلاقات عظيمة تطرّي القلوب ،وتسعدُ كل محبوب .

وفي الحديث الشريف يقول الهادي البشير محمد (ص) : (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) .

وفي التفسير العام لدى الشرّاح : أنْ تحب لاخيك في الإنسانية ماتحبه لنفسك من الخير، وتبغض له ما تبغضه لنفسك من الشر .

غير أن معاني الخير الشخصية تختلف من فرد إلا آخر ، وهذا يصعب مهمة طالب دوام المودة، والفطن من يدرك بعين الملاحظ شواهد تقربه من معرفة تلك الأمور .

ولي زميلة في العمل أسميها (خوخة) تلطفا ، وبيننا مودة وإحترام ، وهي تتقبل مني تلك الكنية بلا إنزعاج ، وإنها لدائمة التعلم حريصة على فهم أسرار المهنة التي جمعتنا في إحدى المؤسسات الإعلامية ، وكنت أظن أنني أفهم تلك الأشياء الصغيرة التي تجعل المودة بيننا دائمة ،وكلي حرص على إطلاقات يومية ترسم الإبتسامة على محياها كبقية الزملاء ، وذات يوم إتصلتْ بي صباحا ،واعتذرت عن المجيء الى العمل ، وقد كان باديا على صوتها أثر المرض ، فقلت لها بصوت واثق لا تهتمي سأقوم أنا وبقية الزملاء بواجباتك اليومية ، ولم أفهم في حينها نبر الحزن وهي تودعني شاكرة لموقفي .

حضرت (خوخة) في اليوم الثاني وعلامات الإنزعاج على وجهها تفوق أثار المرض ، وقالت بصوت كله آلم وقد اغرورقت عيناها بالدموع محدثة الجميع : كنت أنتظر منكم موقفا أفضل من هذا ، لم يتصل بي أحد للاطمئنان على حالي ، والأستاذ ( تقصدني) كان كل همه أداء العمل ،ولم يفكر للحظة أن يقول لي : هل ترغبين بمساعدة ؟ .. هل هنالك من يصطحبك الى الطبيب ؟ .

صُعقتُ في تلك اللحظات حقا ، ولم أجد مبررا أدافع فيه عن نفسي ، كانت كلمات الإهتمام (ولو على سبيل المجاملة) أهم لديها من جهود مضنية بذلنها مجتمعين لتعوض غيابها عن العمل ، وكلمة (لا تهتمي) التي قلتها بكل ثقة كانت كوقع السيف على حبال المحبة بيننا.

لقد كلفني هذا الموقف الكثير من الجهد والوقت لأُصلِح ما أفسده عدم فهمي للأمور الصغيرة التي تمثل إطلاقات دوام المحبة لدى زميلتي .

 

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]