17 نوفمبر، 2024 12:34 م
Search
Close this search box.

من وحي شهريار وشهرزاد (77)

من وحي شهريار وشهرزاد (77)

مابين المحب والمحبوب (2)
شهرزاد : ألا تتفق معي على أن العشق لايخضع لمعايير الجمال وميزان الأخلاق الحميدة ؟! .

شهريار : نعم , أتفق معك تماما ، فالعشق أعظم من أن يرتبط بجمال الصورة أو حسن المظهر ، وبرغم أنه إمتزاج نفسي وإستحسان روحي لكنه لايتحدد بالخلق الرفيع ، ولأنه علّة ذاته ، فهو مترَفّعٌ عن كل هذه الميزات التي نحبها في الناس عامة ، وتقربنا الى الكثيرين من حولنا ،لكنها تتهاوى حينما نسلك طريق العاشقين ، ولو كان جمال الوجه ، أو سحر الإبتسامة ، أو طول القامة ،أو رشاقة الجسم علّة العشق لما أحب الأجمل الأدنى بهاءً ورونقا ،يقول الشاعر العربي :

تعشّقها شمطاء شاب وليدها

وللناس فيما يعشقون مذاهب

العشق مذاهب ياشهرزاد لكنها أبدا لا تخضع لمعايير الجمال أو الرقة أو حسن الخلق ، ولذلك قيل : “العشق أن ترضى بالمحبوب بحسناته وسيئاته” ، غير أن المعنى الظاهر لهذا القول لا يستقيم ،فقد علمنا أن العشق يكون ،ابتداءً، بطلب النفس الباحثة عن شبيهتها ، وهي تتجاوز حجب الطباع الأرضية ، وهذه الطباع قد تكون سيئة ، ولما كان الإمتزاج بين النفسين في (أصل عنصرها الرفيع) ، أي في عالمها العلوي النوراني ، فهو بالنتيجة إتصال مترفع عن جميع المقاييس الأرضية ،وهو متحقق ، سلفا ، قبل الرضا بحسنات وسيئات المحبوب،لكن تلك الطباع الأرضية كلما تجانست بين العاشقَينِ زادت من قوة التمازج والإنسجام ، وأضحت مصدر طمأنينة وسكينة وسلام ، وفي الأحوال كلها لايَعجبنَّ من رآى بيضاء تعشق أسودَ ، أو جميل مظهر يعشق شعثاء ، أو كريما يعشق بخيلة ، فهو تشابه غير مدرك في أصل النفوس ، لكن تناسقَ الهيئة وإنسجام الطباع المحسوسة يزيده رونقا وبهجة .

شهرزاد :حيرتني يارجل!، ألم تقل إن الحواس الأربع مدخلات للنفس ومقدمات للعشق ؟! ، فما الذي جذب الجميل الى القبيح قبل أن تتعاشق نفساهما ؟!

شهريار: لاحجة لكِ عليّ أيتها المتبحِّرة في المعاني ، فذلك القبيح قد يكون صاحب خلق رفيع ، أو صوت ساحر ، ولو تجاوزنا سحر الصوت كمدخل حسي ، فإن الخُلق الرفيع جمال غير محسوس تدركه النفس عبر البوابة الأعظم ،,ذلك هو العقل ، وإنه لكنفٌ لكل جمال مرئي أو حسن مدرك ، والخًلق الرفيع والموقف المَهيب ، والشجاعة ورجاحة العقل، والطبع السخي ، والحلم والصبر ، وسائر الأخلاق الحميدة ، والطباع الرشيدة جمال مدرك غير محسوس أو ملموس ، وأي مما ذكرنا قد يكون حافزا لمرآة النفس ( العين ) للبحث عن نظيرتها خلف حُجُب (القبح الأرضي) الذي لم يَرُقْ للحواس الأربع بوصفها بوابات حسية لتمازج النفوس .

ولعلك نسيتِ ما ذكرناه في أول هذا الحديث ، حين أشرنا الى ،ان “الحب المدرك بالبصيرة أعظم مما يدرك بالحواس” ، وقلنا أيضا : ” شتان ما بين لذة البصيرة وحب الحواس ، تلك البصيرة الموصوفة بالعقل أو بالنور أو بالقلب ،وجميعها تلخص بالحس السادس للانسان ،ويا له من حس عظيم لا يفقده إلا محروم من سعادة الدنيا ونعيم الأخرة ” .

وعلى هذا الأساس تكون اللذة المتحققة من التعلق بخُلق رفيع أو صفة حميدة أعظم تحفيزاً للنفس الباحثة عن شبيهتها خلف حجب الجمال أو القبح الظاهر على وجه المحبوب أو هيأته ، ولو صحت المحبة بينهما لرأى المُحب في محبوبه جملا لا يراه أحد غيره ، فإن لجمال الروح حسن خفي لا يعرفه إلا العاشقون .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]

أحدث المقالات