18 ديسمبر، 2024 6:22 م

من وحي شهريار وشهرزاد (76)

من وحي شهريار وشهرزاد (76)

مابين المحب والمحبوب (1)
شهرزاد : أراك تُفرق بين العاشقَينِ بلفظي المحب والمحبوب فما السر في ذلك بعد أنْ علمنا إنَ الإمتزاج النفسي (العشق) هو علاقة تكامل ؟!.

شهريار : قد يستويان ويتنافسان في التكامل والتضحية ، وهما في هذه الصفة أقرب الى الصديقين الوفيين اللذين يجدان في بذل كل نفيس تعبيرا صادقا عن المحبة ، بل ان العاشِقَينِ يرتفعان في معنى التضحية الى أعلى مراتبها ببذل النفس فداءً للطرف الآخر ، والشواهد عبر التاريخ لا تحصى ولا تعد ،والمُحبُ هو الذي يعرض محبته أولا وهو الباحث عن النفس الشبيهة عبر لحظ عينه ، المستقبل لمعاني القبول في اللحظ المقابل ، الساعي الى أثارة إهتمام المحبوب بما يتقنه من المهارات الشخصية ،المستميل له بالكلام الرقيق والإبتسامة المشرقة ، وذلك النشاط الروحي كفيل بإستنهاض مهارات مخفيّة يخفق لها قلب المحبوب ، وهي سبيل محرض للقَبول ، وكأن تلك المهارات جزء أصيل من الطباع الخفية للنفس التي لا يدركها حتى صاحبها ، فأذا لاحت النفس الشبيهة هيّجت كل مهارة وأظهرت كل إبداع .

وإذا كان التعريض بالمحبة صفة المحب ، فإن إدراك معانيها الخفية – قبل البوح بها قولا – صفة المحبوب، فالنفس الشبيهة وحدها تعلم ،عبر مدخلاتها الأربعة، أن وراء إستعراض المهارات سر عميق غائب عن بقية الحاضرين ، وكل ذي مهارة مُستعرِضٌ لها أمام الناس ، وهو يقصد بها عامة إثارة إهتمامهم وإعجابهم ، وكما مر ذكره ، فإن البشر يبحثون عن الثناء بوصفه أعمق إحساس في نفوسهم ، وكلما دنا المحبوب إزداد اضطراب المحب ، وإنه يفضل – قبل أن تتوثق المحبة بينهما – أن يكونا في جمع من الأصحاب أو الأهل ، فإن إستعرضَ مهارته التي كانت مخفية قبل أنْ تستنهضها المحبة في نفسه ، كأن ينشد شعرا ، أو يُطرب من حوله ، أو يَرسم لوحة نال الثناء وهو ليس بباحث عنه ، عينه على محبوبه الذي يعرف وحده ذلك السر الخفي، فإن فاض لحظه بنظرات الإعجاب والقَبول ،أشرقت في وجه المحب سعادةٌ لم يُرَ مثلها في عينيه منذ ولدته أمه حتى تلك الساعة .

وكل ذلك قبل التعريض المباشر ، فإن تحقق الوصل وتمازجت النفسان قد تستوي المحبة بينهما فلافرق بين المحب والمحبوب في خَلقٍ او صِفةٍ كانت مخفية ، وإنهما أقرب الى الناظر في المرآة ، فلايعرف من منهما تَخلّقَ بخُلقِ الآخر ، وأيهما تطبع بطباع نظيره ، وتلك العبارات التي يرددانها هي في الأصل لهذا أو ذاك ، وأيهما تعلم من الآخر مهارات نادرة ، ومن منهما كان سباقا الى عشق الآخر ، فهو إمتزاج نفوس يمنع الإجابة عن أي سؤال محيّر .

وأقول : قد يستويان في المحبة ذلك أن الإمتزاج النفسي كان في البدء من جذب النفس الأقوى للنفس الشبيهة ، فإذا تخلصت الشبيهة مما علق بها من سلوكيات وطباع أرضية كان التمازج تاما ، وإستوت المحبة بينهما ،وإن تمسكت نفس المحبوب ببعض عاداتها الأرضية وظلماتها الجسدية لم تبلغ النورانية الكاملة لطبيعتها الخَلقية ، وظلت المحبة الأقوى للنفس المتخلصة المدركة لمكنونات شبيهتها بدون حُجُب .

والنفس الأقوى تجذب إليها عدة نفوس لكنها لا تتمازج إلا مع نظيرتها في العالم العلوي ، وفي ذلك أجابة وافية لمن أحبَ بصدق ولم يجد في محبوبه كنف العشق وغايته الأبدية ، فإنّ لكل نفسٍ عاشقة نفسٌ معشوقة واحدة تتمازج معها ، ولا يصح التمازج مع غيرها ، ولذا فأن أحدنا لا يعشق إلا مرة واحدة في حياته ، ولو أحب ألف مرة .

وبرغم إن ذلك التمازج يكون في أفضل حالاته إنْ تَخلصتْ النفسان من المتعلقات الأرضية ، وفي تلك المحطات النورانية تتساوى المحبة بينهما ، لكنني أجد أن النفس الأقوى للمحب التي كانت أساسا للجذب والتعريض بالمحبة أكثر بذلا وتضحية ،وهي في قمة السعادة أنْ ترى علامات الرضا بين عيني المحبوب ، والنفس المنجذبة الى شبيهتها وإنْ نافستْ في المحبة ، لكنها تتذكر دائما أنها النفس المدللة المحبوبة التي عُرِضَتْ عليها المَحبة ، وأنَ سعادة المحب تكمن في رضاها لا في كثرة عطائها وتضحيتها.

 

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]