22 ديسمبر، 2024 7:12 م

من وحي شهريار وشهرزاد (7)

من وحي شهريار وشهرزاد (7)

دائرة التأثير وآخر حريات البشرية
قال شهريار : من أسرار المحبة إنها توسع دائرة تأثيرنا على الناس ، والجهول من يجاهر بالمودة وليس بقادر على استنهاض الخير في القلوب.

شهرزاد : وكيف للمحب أن يوجِد الإبداع في عمل الأحباء ؟

– دائرة التاثير تلك المساحة العجيبة التي تتنازع فيها الأنفس بين المثير والإستجابة ، كما يقول أهل الصنعة ، وقلنا آنفا :إننا بالمحبة ننفذ الى قلوب الناس ، وننفث أفكارنا الطيبة في صدورهم ،ونكون أكثر تأثيرا عليهم من أنفسهم لو كسبنا ثقتهم ، وكما أننا نؤثر فنحن نتأثر ، وعلينا ابتداءً التحصن قدر المستطاع من الإنهزام امام أمواج الشر كيما نوسع دائرة الخير ، وقد تتسع دائرة تأثيرنا أكثر لتشمل القلوب المريضة ،والصدور البغيضة .

إننا نتحدث هنا عن مبادر للمحبة يحمل سحر صفات القيادة ، وتطلعاته للريادة التي تفتح للآخرين آفاق السعادة ، ومن بينها سعادته هو ، ذلك المعطاء الذي بحث عن السعادة في كل مكامن الحياة وأفكارها ، وتبحر في علومها وأسرارها ، فلم يجد عميق معانيها إلا في إسعاد الآخرين .

ولأن القائد ينظر الى آفاق بعيدة ،ويستخدم خياله وقوة إدراكه لينال حريته و يكسر قيود التأثير السلبي للمتكئين على العثرات ،والمتسلقين على الزلّات ، وبينما الطيبون منغمسون في أداء الواجبات ، تبرز لدائرة التأثير الايجابي أرفع السمات ، كالمعدن الأصيل كلما زدناه طرقا زاد لمعانا وتألقا .

لناخذ جولة سريعة مع قصة الطبيب النفساني الشهير فيكتور فرانكل الذي أعتقل في المعسكرات النازية الألمانية ، وقد مات والده وزوجته وأخوه في تلك المعسكرات ، وعانى فرانكل من التعذيب والإنتهاكات مرات عديدة ، وذات يوم وهو جالس وحيدا عاريا في معتقله بدا يدرك ما سماه لاحقا(آخر حريات البشرية) ، تلك الحرية التي لم يكن بمقدور معتقليه النازيين سلبها منه ، كان بإمكانهم السيطرة على بيئته بشكل كامل وبإستطاعتهم فعل ما يريدون بجسده ، لكن فكتور فرانك كان مخلوقا مدركا لذاته ، يستطيع النظر بعين الملاحظ لمحيطه ، وحافظ على هويته الأساسية السليمة ، ويستطيع أن يقرر في قرارة نفسه كيف ستؤثر كل هذه الضغوطات الكبيرة عليه، وبين ماحدث له أي المحفز ، وإستجابته له تولدت حريته او قوة الإختيار .

رفض فرانكل التأثر بالعالم القهري الذي يحيط به من كل جانب وعن طريق إستخدام ذاكرته وخياله كان يلقي محاضرات على طلابه وكأنهم حاضرون أمامه ، ويشرح لهم الدروس التي كان يتعلمها أثناء تعذيبه ، ومع استمرار تدريبات ضبط النفس بدأ يصقل حريته الفكرية ، حتى أصبح يتمتع بحرية تفوق مثيلاتها لدى معتقليه ، بل إنه أصبح مصدر إلهام لمن حوله ،واستطاع أن يوسع دائرة تاثيره لتشمل حراسه الذين تعلموا منه إيجاد حلول لمعاناتهم اليومية ،واستقوا منه معاني الحرية ، وعلى هذا الأساس يقول ستيفن آر كوفي : (بين المؤثر والإستجابة تكمن حرية اختيار الإنسان) .

صدقا اقول ليس كل واحد منا يحمل هذه الصفات العظيمة كفكتور فرانك لنقف بوجه أمواج كاسحة قد نتعرض لها في أي وقت لكننا جميعا قادرون على أن نتعلم منه منع تاثير دوائر الشر علينا ، وأن نكون مؤثرين لزيادة الخير في قلوب الطيبين قولا وفعلا وإبداعا .

لقد كان فرانكل أحد الفروديين المدافعين عن الحتمية ومفادها أن اي شيء يحدث لنا في طفولتنا يشكل شخصيتنا ،ويسيطرعلى حياتنا بالكامل ، ولايمكننا فعل شيء إزاءه ، لكنه ،أي فرانكل ، تعلّم من مأساته : إننا قادرون على التحرر من هياكلنا القديمة ، ومنع تأثرنا بالمتسلطين والأشرار .

وسبق أن أشرنا ياشهرزاد الى أن أفضل مايمكن فعله في مواجهة المتكبرين تجاهلهم ، فإن الطبيعة البشرية تدفعنا الى التنافس ، لكن حرية الإختيار المكتسبة تمنع تأثير المتكبر على نفوسنا لنرد عليه بالمثل على إعتبار إن ذلك يمثل تواضعا(عند أصحاب هذا الراي) ، وأجد بتواضع شديد إن التكبر على المتكبر ردة فعل لتأثرنا بصفته الذميمة ، وأن تجاهله دليل على اقترابنا من حرية الإختيار التي نقلت فرانكل من الجحيم الى الجنة وإنْ كان قابعا في معتقله .

 

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]