18 ديسمبر، 2024 6:51 م

من وحي شهريار وشهرزاد 52

من وحي شهريار وشهرزاد 52

قدسية الصداقة (1)

إعلمي ياشهرزاد إن الصداقة أعمق تكاتف مخزون في سرائر النفوس تنبعثُ أنواره في الليالي الحالكات ، إنها بإختصار محبة عابرة للجسد ، خالية من المصالح ، رصينة الأسس ، والأهم أنها قاربُ النجاة حينما تتقاذفنا أمواج الإحساس بالوحدة .

شهرزاد : سأكون صريحة معك .. ربما تكون الصداقة أعظم من أن نَصفَ بها العديد من الأشخاص ، أراها علاقة مقدسة .. لكنني أراك تطلقها على الكثيرين من حولك وأنت تقص عليّ القصص!

شهريار : أشهد أن الحق ماقلته ، حقا إنها علاقة مقدسة ولا تصحُ مع الكثيرين ممن نطلق عليهم كلمة صديق ، وربما تعجبين إن قلت لك: أنني أميل كل الميل لما نقلته كتب الفلسفة عن أرسطو حين قال: ” من كَثُرَ أصدقاؤه فلا صديق له ” ، كأنني بأرسطو يردد ما ذهبتِ إليه ياشهرزاد : إنه ترابط عميق قَلَّما يلامس نفسين متجاذبتين ، فكيف لنا ان نسمي كل من نعرفه صديقا ؟!.

شهرزاد : قل هذا لنفسك ياشهريار سمعتك ترددها في مواضع شتى !

شهريار : حسنا .. قد تجمعنا علاقة صداقة صدوقة مع أشخاص لا يخذلوننا ولا نخذلهم ، لكنهم يفارقوننا ونفارقهم عن قناعة مشتركة ،فكما أن الحياة مراحل فإن الحب والصداقة مراحل أيضا ، إن تبدّل القناعات ،وتغيّر التصورات الذهنية ،وحتى الأحلام ، وتباين الأهداف مدعاة عظيمة للفراق بين أصدقاء صدوقين جمعتهم أيام مُرّة ، وأخرى بطعم العسل من غير أن يتخلى عن بعضهم البعض في أوقات الشدة أو أن تتراخى أواصر مودتهم أيام الرفاهية .

الآن أستطيع أن أدافع عن نفسي ياشهرزاد ، أنا لم اطلق كلمة صديق فيما ماضى ألا على قلة قليلة ولست نادما على ذلك أبدا ،ومنهم نزر قليل مازال في معيتي ، كما إنني في معيتهم ،وأمّا الآخرون فهم في أعماق ذكرياتي بعد أن وصلنا الى مفترق الطريق ، وإن ألتقينا صدفة تعانقنا بكل محبة ، وعدنا سريعا بذكرياتنا الى العقد الذي جمعتنا فيه أعظم معاني الصداقة ، حينما كنّا نرى الحقائق بمنظور واحد ، ونحلم سوية بمستقبل ذي ألوان زاهية متناسقة .

شهرزاد : لم أسمع أحدا يبرر فراقه لصديق إلا بعد أن يتهمه بالخذلان أو الخيانة ، وعدّد ما شئت من المفردات الرنانة التي تجسد نهاية مأساوية لعلاقات إستمرت لسنين طوال !.

شهريار : دعينا أولا نستوضح معاني الصداقة أكثر فإن اتفقنا على أنّ اختلاف وجهات النظر في مرحلة معينة منها أمر واقعي ، وأنه سبب وجيه لأنهاء تلك العلاقة الصادقة كان ما ذهبتُ إليه منطقيا ، وألأ فإنني سأضم صوتي الى المتذمرين المصدومين بإنتهاء صداقاتهم بدعوى الخيانة او الخذلان .

لعلّك يا شهرزاد تؤمنين مثلي بأن أرواحنا قد إلقت في عالم الغيبيات قبل أن أجلس أمامك هنا .

يقول الله تعالى ” وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ”

في ذلك المشهد العظيم حينما أخذ الله علينا عهد العبادة له وحده سبحانه ، إلتقينا مع كل من نعرفهم اليوم ،ومع كل من أحببناهم من غير سبب نعرفه .

والذين لا يؤمنون بهذا المشهد يُقرّون بالمحبة اللحظية لإناس لم يروهم من قبل ، وكأنهم يعرفونهم منذ ألف عام ، فما السر في ذلك ياترى ؟ .

ذلك الإنجذاب الرقيق هو أول أواصر الصداقة ، ولا نعرف له سببا غير ماذكرنا ، يملؤنا الحماس فجأة للتقرب أكثر من هؤلاء الذين نحبهم من غير سابق معرفة ، ونَتَحينُ الفرص لمعرفة المزيد عنهم ، و نختار أحلى الكلمات وأصدق الإبتسامات إذا دار حديثنا الأول مع (صديق المستقبل)، وسواءٌ كان إنجذاب المقابل بسبب ماإستشهدنا به من الآية الكريمة ، أو إننا إستطعنا أن نكسب وده باللباقة وحسن التصرف والإهتمام الصادق ، فالنتيجة واحدة .. محبة عابرة للغة الجسد ،وإنسجام نفسي قل نظيره ، إنه إحساس متبادل بالراحة والطمأنينة ، وحتى الحاجة الماسة الى تبادل الأسرار والهموم ، وثقة عجيبة تجعل كل طرف مؤمنا بنصيحة الطرف الثاني وكأنه فيلسوف عصره ، وأستطيع القول : إن الصديق هو الإنسان الوحيد الذي نسعى جاهدين لنكون كتابا مفتوحا بين يديه ليقرأ ما في سطوره بإمعان ، بل إنه قادر على قراءة مابين السطور من نقاط ضعف وقوة من أجل أن يكون ساترا للأولى وداعما للثانية .

من هنا تأتي قدسية الصداقة .. نحن نخبئ حتى عمّن نحبهم بعض نقاط ضعفنا خشية أن نفقدهم ، لكننا نبيح بكل أسرارنا لمن نتخذه صديقا وكأننا نستودعها في بئر عميقة لا يُرى قرارها أبدا ، وللحديث بقية

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]