تعلمْ أن تنصت لتنالَ ثقة الآخرين
قالت شهرزاد : ألا ترى ان البعض يظنون أننا نراقبهم ونتدخل في شؤونهم حينما نحاول ان نوصل رسالة إهتمامنا بهم ؟
شهريار : نعم ذلك حق .. قلنا ابتداءً إننا نُقبِل على الناس بقلوب مُحِبة ،وإننا لنقدر ذواتنا ونوقرها قبل المباردة الى محبتهم ، وإن عقولنا اللاواعية لقادرة بشكل عجيب على ترجمة تلك المحبة الى أفعال إهتمام لا مراقبة ، ومع بداية كل تعارف علينا أن نتصرف كما يفكر علماء النفس ، ونحاول جاهدين أن نبلغ أعماق الطرف الآخر في العلاقة ، أتحدث هنا عن الداخلين في دائرة اهتمامنا حصرا من جميع الصنوف آنفة الذكر ، وليس في الأمر صعوبة بالغة ،فإن قمة الإهتمام بالآخرين تتجسد في محاولة فهمنا لهم ،والإستماع إليهم ،والنظر الى همومهم من وجهة نظرهم ،وليس من وجهة نظرنا ،وهو مايسمى بالتقمص العاطفي ،وإنْ إبداء التأثر ،وتوقف عن إطلاق النصائح أعظم دليل على الإهتمام ،وخير طريق لكسب ثقة الآخرين .
إنّ أحدنا ليلبس قبعة الخبير كما يقول العبقري جون غراي ،ويطلق كمّاً من النصائح والحلول قبل أن ينصت بشكل كامل الى المتحدث ، تجاربنا الشخصية تدفعنا الى التفاخر من حيث لا ندري ، ونعتقد أننا قادرون على حل جميع المشاكل قبل أن نستمع الى تفاصيلها ، ذلك ياشهرزاد يدفع المتحدث الى الندم على أنه قد كشف أسراره لنا ولسان حاله يقول : (عفوا لا أستطيع ان أستمع الى نصيحتك فانت لم تسمع شكواي).
علينا ياشهرزاد أن نتعلم فن الإنصات، وهو يحتاج الى تدريب وصبر ولجم (الأنا الخبيرة) التي تحاول إبتداءً النصيحة على عجل .
إن أعظم أبواب الثقة الى النفس البشرية أن نحقق للمتحدث عن همومه ومشاكله فرصة التعبير بلا مقاطعة وهو مايسمى (الهواء النفسي) الذي يشعره بأهمية مايقول وبوجود من يستمع إليه من أجل أن يفهمه لا من أجل أن يرد عليه ، أو يبدي له النصائح ، الإنصات بصيغة التقمص العاطفي لايعني التعاطف مع صاحب الشكوى فإن التعاطف يعني الموافقة على كل مايقول ، بينما نحن نحاول أن نفهم حقيقة الأمر لنكون طرفا أصيلا في حل المشكلة .
يقول ستيفن آر كوفي :(إن مقولة “حاول أن تفهم أولا” تنطوي على تغيير عميق في التصور الذهني ،فنحن في العادة نسعى كي يفهمنا الآخرون أولا ، فمعظم الناس لا ينصتون بنية الفهم بل ينصتون بنية الرد،وهم إمّا يتحدثون ، أو يعدّون أنفسهم للرد ، ومن ثم فهم ينتقون مايستمعون إليه من خلال تصوراتهم الذهنية،ويقرأون سيرهم الذاتية في حياة الناس) .
هكذا هو الحال .. إنْ أنصتنا للناس من أجل أن نفهمهم فإننا نمد جسور الثقة معهم ، فإن أفلحنا في ذلك كسبنا محبتهم وثقتهم وتلك هي الغاية .
وبالرغم من ذلك كله فأنا ادرك تماما أنه ليس جميع الناس كتباً مفتوحة نقرأ فيها مانريد فمنهم الكتوم قليل الكلام عن نفسه ومشاكله ،لكن لكل واحد منا نقاط ضعف ، والمحب للناس يغتنم تلك النقاط في أحوالهم بنية التقرب والمساعدة ، وإن للفضول فنونا يجهلها الكثيرون ، وأفضلها المراقبة بعين رحيمة لا يراها الا الله ، تستبصر لحظات يكون فيها الكتوم في أشد الحاجة الى البوح بما فيه ، كأنه بركان يكاد يقذف حمما تبلغ عنان السماء ، وإنّ الحسرات والتنهدات والإطراق دلالات لاتخفيها النفس الكتوم .
لي صديق أسميه رفيق الدرب ، وإنه لخير رفيق في السراء والضراء،قبل 15 عاما كانت المودة بيننا متعثرة، لكنه يميل الى رفقتي بين الحين والآخر ، وكنت أشعر بتميزه وطيبة قلبه ووقاره لكنني لاأجد منه إلا كلاما عاما ، فهو كتوم لايبوح
بأسراره وعلى وجهه إبتسامة لا يفارقها طعم مرارة ، وبالعين الرحيمة كنت أراقبه وأنتظر الإشارة ، علّي أصل إلى خفايا نفسه ذات يوم ، وأسمع منه منصتا بلا لوم ، وفي لحظات مظلمة ، وتحت تأثير هموم مؤلمة أطرق رفيق الدرب ، وكنت أفكر بتركيبة سحرية تنفس الكرب ، من غير أن تؤذي حمم البركان الملتهبة مشاعر صاحبي، قلت له مازحا : هل تعرف أنني أبحث منذ أعوام طويلة عن صدر كتوم لأسراري وبدلا من ذلك وجدتك كتوما لأسرارك وحسب .
تبسم بمرارة كما عهدته ثم قال : وأنا كذلك .
منذ ذلك اليوم وأنا أستمع أليه حتى أفهمه جيدا ،وهو يبادلني الفعل بمثله فأذا أخذ أحدنا (هواءه النفسي) ، وباح بما في صدره ، وأتم الحديث بلا مقاطعة مع تركيز منقطع النظير من المنصت، ومحاولة جادة للوصول الى تصور ذهني متطابق لم نتأخر في إيجاد حل للمشكلة ،ولا أظن أننا أخفقنا في ذلك يوما ،العين الرحيمة ،والنوايا السليمة كانتا كلمة السر التي تفتحت بها مغاليق قلبينا لتسفر عن مغارة تملؤها أنوار محبة دائمة ،وأسرار دفينة الى يومنا هذا .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]