23 ديسمبر، 2024 12:05 ص

من وحي شهريار وشهرزاد (47)تواضع لأولادك لترى العجب

من وحي شهريار وشهرزاد (47)تواضع لأولادك لترى العجب

شهرزاد : أخبرني يارجل المحبة ، مامعنى أن يكون الوالدان متواضعين مع أبنائهما؟ ،والمقامات محفوظة – كما يقولون- مابين الوالدين والأولاد ! .

شهريار : نحن متفقان ابتداءً على أن التواضع هو أول نور منبعث من محبة عامة نتعامل بها مع جميع الخلق ، وكما كان ذلك التواضع مفتاح لقلوب الناس ، فإنه بكل تاكيد قادر على فتح نافذة في قلوب أبنائنا وبناتنا الرقيقة ، حينما يرانا الأبناء متواضعين لله والناس فإنهم يشعرون بالأمان معنا ، ومن يشعر بالأمان يحبُ من كان سببا في طمأنينته لا محالة ، هذا من جانب ، أمّا الجانب الآخر الذي تسألين عنه يا شهرزاد ، فلا أجد سببا للعجب ، نعم المقامات محفوظة .. من قال إننا حينما نتواضع لعامل النظافة ، أو نبتسم في وجه الفقير قبل أن نضع بيده مبلغا من المال نفقد مكانتنا الإجتماعية ،أو بريق شهاداتنا العليا ، أو وظيفتنا الرفيعة في المؤسسة التي نعمل فيها ؟ !.

إن التصور الذهني الخاطئ للمثل الشائع ( الناس مقامات ) ، يجعل الآباء والأمهات يسقطون في فخ التكبّر على أبنائهم ، ثم يتعجبون من تَكبّر أبنائهم على الناس! ، بل إنهم يشعرون بالتكبّرعلى آبائهم وأمهاتهم ، فهم يجدون في (الأنوات المتعالية) للوالدين مدعاة للمعاملة بالمثل ، من باب التمرد على أقل تقدير،وكيف لا وهم يفتقدون لروح الإستقلالية وتقديرذواتهم،بسبب خُلقٍ سيء إعتاد عليه الوالدان ؟.

إن المقامات المحفوظة لاتتساقط بالتواضع لكنها تنهار بالتعجرف ،أوالنظرة الدونية للآخرين أو المكابرة ، أمّا التواضع فهو أساس المقام العالي،نحن لا نتربع على عروش القلوب بأموالنا وشهاداتنا الجامعية وخبراتنا العلمية ، بل في قدرتنا على محبة الجميع وتقدير طاقاتهم وخبراتهم الحياتية ،وحرية إختياراتهم العقلية ، فإن كان ذلك ممكنا مع عامة الناس ، فمن باب أولى أن يكون متاحا وبقوة مع أبنائنا وبناتنا .

وكما قلنا آنفا ،حينما تحدثنا عن أطلاقات المحبة : ” كل ما كان مفتاحا للمحبة فهو سبيل لدوامها” ، فإن كان التواضع أحد مفاتيحها وأسباب دوامها مع العامة الناس فإنه كالنهر الذي تغتسل في قلوب أبنائنا وبناتنا من أمراض الكبرياء الزائفة والغرور المُحبط ،ولعّل أنقى مياه ذلك النهر الإقرار بالخطا ثم الإعتذار ، فبحكم ( المقام العالي ) للأباء والأمهات فهم يخطئون بحق أولادهم لا سيما في لحظات الغضب ،او في لحظة تجاهل لعاطفة جياشة يطلقها أحد أولادنا نحونا ، أو كلمات جارحات تصيب أعمق نقطة في نفوسهم ، وحينها يختل نصاب المحبة في قلوبهم ، وهم بطبيعة الحال بحاجة ماسة الى جرعة عالية منها ،وكلمات إعتذار صادق تنساب كالبلسم على جراحاتهم .

أن الإعتذار الصادق المنبعث من نفس نادمة مقدرة لذوات أولادنا يجعل أخطاءنا وهفواتنا معهم كالضارة النافعة ، فحين نخطئ بحقهم يلتمسون لنا عذرا من تقديرهم لحرصنا على مستقبلهم ،أو خوفنا على مصائرهم ، لكننا حينما نعتذر لهم بعمق ننشر في قلوبهم أعظم ملامح التواضع ، وأدوم ثقافة للنفس الممتلئة بالثقة والمبادئ العليا والاخلاقيات السامية ( الإعتراف بالخطا والإعتذار ) ،تلك الثقافة التي يفتقر اليها السواد الأعظم من الناس ، ويالها من لحظات حالمات تلك التي يحتضن فيها الأبن او البنت ، أحد الوالدين بعد أن تلقيا منه إعتذارا صريحا على موقف جارح.. في حينها تنساب الدموع لتزرع بذورا جديدة للمحبة الدائمة ،وتزهر ثقافة التواضع والإعتذار عن الخطا في أجيال وأجيال متلاحقة .

ومن معاني ذلك التواضع أن نكون أصدقاء صدوقين لأولادنا ، حافظين لأسرارهم ، داعمين لصفاة قوتهم، والتخلص من مكامن الضعف في نفوسهم .

إن الفهم الخاطئ للفرق بين مقام الوالد والولد يتجلى بعدم تقبل الأباء والأمهات لأي خطأ إجتماعي أو ديني يقع فيه أبناؤهم وبناتهم لاسيما في سن المراهقة ، ذلك المخلوق المضطرب السلوك بسبب وتيرة نمو متسارعة ، وبداية إحساسه بالرجولة ،او ظهور الطمث على المراهقة للمرة الأولى،وحصول تغيّرات فسيولوجية في أعضاء مختلفة من الجسم تجعلهما في حالة من الحرج والقلق الدائم.

في تلك الأجواء المزدحمة بمشاعر متضادة مابين الطفولة والرشد ، يقع المحظور ، فتتبادل المراهقة الإبتسامة مع شاب متحايل ، وتظن أنها قد أصبحت أمراة ناضجة ، وحان الوقت لتعيش مشاعر الحب ، وربما تفكر بأنها مستعدة للزواج ، وقد تتبادل معه رسائل سرية عبر الهاتف الذي أصبح في أيامنا هذه عالما متكاملا للتواصل ، وقد يصل الأمر الى لقاء سريع بعد هروبها من المدرسة في أحد الأيام .

وتخيلي معي ياشهرزاد ، لو أن مراهقة من عائلة محافظة وقعت في المحظور ، واعتلجت المشاعر في صدرها ، وهي تشعر بالخوف ، والفرح ،والذنب في وقت واحد، وهي بحاجة الى صدر يتسع لهمومها وأسرارها ، فإن كانت والدتها تعاملها بروح الصداقة ، وتفهم معاني المقامات على حقيقتها ، فإنها ستلجأ إليها بكل تاكيد ، تلك الأم الصَديقة لن تخذل صديقتها الحميمة ، وسترشدها بكل محبة الى الطريق الصحيح ، وتعاهدها على دعمها بإختيار شريك حياتها في الوقت المناسب ، بل إن ذلك السر الخطير في عرف مجتمعاتنا ، لن يخرج عن إطار القلبين الصديقين المتحابين .

أمّا الأم المتعالية (ذات المقام العالي) فإنها آخر مخلوقة في الوجود تفكر البنت المراهقة بإطلاعها على سرها الدفين ، بل إنها ستكون آخر من يعلم ،ولات حينَ مدم .

أمّا الفتى المراهق فيقع عامة في محظورات إجتماعية مختلفة أبرزها في عصرنا هذا : التدخين ، المخدرات ، المشروبات الكحولية ، والأفلام الإباحية .

وعلى الوتيرة ذاتها .. أن كان والده مقرّبا الى قلبه ، حافظا لسره ، مقدّرا لذاته ، لجأ اليه ، وهو يشعر بالتردد مابين الإستمرار أو الإقلاع .

شهرزاد : مهلا ياشهريار ..بالله عليك هل تصدق أن مراهقا يتعاطى المخدرات يلجأ لأبيه ليطلب النصح والإرشاد ؟!.

شهريار : قد يكون ردي قاسيا عليك هذه المرة فسامحيني : كل من يظن أن إبنه المراهق لا يفكر، كل يوم ، بان يفشي سره الخطير له تحديدا ، ويطلب منه العون للتخلص من البلوى ، فإن عليه أن يراجع سجل مواقفه المتعالية مع أولاده.

إنه يفكر بذلك ياشهرزاد مرات ومرات، لكنه يصطدم بمواقف تقريع سابقة على عثرات لا تكاد تسيء لأحد ، فكيف له أن يأمن العواقب إنْ أطلع أباه على ذلك الذنب الخطير ؟!.

إنْ كنّا محبين لأبنائنا وبناتنا ، علينا ان لا نكتفي بنزع الأقنعة التي نتخلص بها من مواقف الحرج مع بعض الناس ، وأن نمعن النظر بأخطار سنْ المراهقة قبل أن يبلغوها ، وأن نستعد لها بكل سلوك إيجابي وقيمة عليا تبلغهم رسالة مفادها : ( أنا أثق بك .. فثقْ بي) .

ولعلنا نبلغ أعلى مراتب الصواب إنْ قلنا : إن أعظم درجات التواضع مع أبنائنا وبناتنا ، أن نضع أنفسنا في مكانهم ( التقمص الشخصي) ،وننزع قبعة الخبير، ونصارح ذواتنا بأخطائنا في أيام مراهقتنا ، حينئذ سنفهم تماما أسباب العثرات وموجبات السَقْطات ، ومتلازمات الأخطاء والهفوات ، وعند بلوغنا هذا المقام سترتمي المراهقة في أحضان أمها ،ويهمس الولد في أذن أبيه ، وكأنهما يحدثان نفسيهما بدون تردد ولا خوف .

إنها المحبة الصادقة ياشهرزاد تمد أنوارها الى قلوب أولادنا بتواضع لتملأ نفوسهم طمأنينة وثقة ، وإرادة تعينهم على تجاوز الأخطاء وللحديث بقية .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]