23 ديسمبر، 2024 1:00 ص

من وحي شهريار وشهرزاد (35) الهاربون من المشهد الأعظم في الحياة

من وحي شهريار وشهرزاد (35) الهاربون من المشهد الأعظم في الحياة

الهاربون من المشهد الأعظم في الحياة
شهرزاد : أعرف مِنَ الآباء مَنْ يهرب بعيدا بينما الأم تعاني من آلام الولادة وتكاد روحها تخرج ، وهو لاهٍ بين أصحابه ينتظر خبر المولود الجديد عبرالهاتف!.

– ماوضِعتْ الجنات تحت أقدام الأمهات عبثا ياشهرزاد ، تلك اللحظات التي ترى فيها الأم الموت نصب عينها ، وهي تصارع آلاما تفوق طاقة البشر، وكأنها لم تكن كافية أشهر الحمل الثِقال ، وبرغم أنه هَمٌ بعد هَمٍ أعظم إلا أن الوالدة تكسر قاعدة عظيمة في معاني المحبة وهي تتجرع مر الولادة .

وليس الغزالي وحده من جعل اللذة مقياسا للمحبة ، والألم قاعدة للبغض، فقد وافقه في هذا المعنى سائر المتحدثين عن ميزان المشاعرالإنسانية ، ودعينا هنا نقرأ ما كتب الغزالي : (الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوى سمي عشقا ، والبغض عبارة عن نفره الطبع عن المؤلم المتعب ،فإذا قوى سمي مقتا فهذا أصل في حقيقة معنى الحب لا بد من معرفته) .

تأملي ياشهرزاد في قوله : البغض نفرة الطبع المؤلم المتعب ، ثم اسقطي هذا المعنى على سويعات مهلكات تلد فيها المرأة ، وعلى فرضية أن الحب مدعاة للسعادة ،وأن السعادة متضادة مع الألم كما الحب ، والضدان لا يجتمعان في زمان ومكان واحد ، فان تلك المرأة تعلمنا فلسفة أخرى ،ومنطقا مغايرا عن الحب والسعادة ، إنها تشعر بأعظم سعادة ،وأعمق معاني الحب، وهي تتقلب بين أوجاع وآلام أعظم من أن توصف ،لكننا قد نحسن التشبيه لا المطابقة إنْ قلنا: إنّ كل طلقة من طلقات الولادة كموجة بحر هائج تضرب ميناءً غارقا في القِدم ، تقلع أعمدته من جذورها ، ترفعها الى عنان السماء، ثم تقذف بها الى شواطئه بلا رحمة، لتتهاوى جميع أركانه وترتعد سقائفه ، وتتهالك أوصاله .

وكيف لنا أنْ نصدق أنّ تلك الأمواج العاتيات التي لا تبقي ولا تذر تزرع اللذة في ذاتها، وتخلقُ السعادة والحب في قلبها،وهي تصارع الموت لترى رضيعها ،وتضمه إليها ،ودموع فرحها تتساقط على خديه قبل أن تلقمه ثديها ،ولسان حالها يقول : ها قد اتحدنا من جديد .

لو أدرك الرجال (الهاربون) هذه المعاني لما تنصلوا عن حضور أعظم ملحمة حب تسطرها الزوجة في سويعات الولادة .

وليس كل الرجال غافلون عن القيم العليا المتجسدة في تلك الأوقات الحرجة ، لكن أعرافا إجتماعية بالية ، لا دخل للمعتقدات الدينية فيها ، تحول بينهم وبين ذلك الموقف .

لكنني أعجب ممن يدعي الثقافة والمعرفة ويتابع التطورات العلمية التي تخبرنا بأهمية دعم الرجل للمرأة في ساعات الولادة ، ثم يقول : كيف لي أن أشهد ذلك الموقف؟ .. ماذا سيقول عني الناس ؟ !

ودعيني أقص عليك حادثة بهذا المعنى أشهد الله عليها ، فقد تحاملت عليّ أم زوجتي رحمها الله لأنني أشفقت عليها ،ولم ابلغها بالحضور إلا بعد ولادة النجم الأول في حياتنا ( إبننا البكر زيد) ، وكانت بين الحين والآخر تذكرني بذلك الموقف ، وتخبرني بأنها لن تنسى أبدا أنني كنت سببا بعدم وجودها مع ابنتها في ذلك اليوم العصيب ، ولم تشفع لي تفسيراتي وتأكيداتي بأنني كنت خائفا عليها ليس إلا .

وقبل أن يحين موعد ولادة النجم الثاني ( محمد) بأيام كانت زوجتي في كنف أمها ، علّ ذلك التصرف يرفع الضغينة من قلب العمّة ، وكنت أزورها بين اليوم والآخر علّني أكون عونا في ذلك اليوم العصيب ، وقد منحي الله الفرصة،وحانت ساعة الصفر في آخر ساعات ليلة شاتية ، أدركتْ ( عمتي) أنني كنت محقا في المرة الأولى ، فليس في بيتهم من يعيننا على الوصول الى المستشفى ، ولاسيارة (تكسي) في ذلك الوقت المتأخر .. كأننا في صحراء ، وبعد سويعة من الحرج سالت فيها دموعي حسرة على زوجتي ، جاء الفرج وماهي إلا سويعة أخرى حتى دخلت زوجتي الى صالة الولادة مع أمها ، بينما أروحُ وأغدو في الممر المؤدي الى الصالة ألتمس بالدعاء والتسبيح لحظة الفرج الأعظم من رب السماء .

وبينما أنا على هذه الحالة وصرخات المخاض تبلغ مسامعي خرجت الممرضة المسؤولة عن الصالة ،ونظرت اليّ بإستغراب وقالت : ماذا تفعل هنا؟.

– زوجتي في الداخل وأنا أدعو لها .

– لا لا نَفَسُك (حضورك) سيكون ثقيلا عليها وستتعسر ولادتها .

ابتسمتُ بمرارة وقلت لها : عجبا إمرأة متخصصة مثلك تعرف إنهم في الغرب يجعلون الرجل يحضر في صالة الولادة وأنتِ تقولين لي :إنّ وقوفي في هذا المرر سيكون ثقيلا على ولادتها !.

– أخرج من فضلك ممنوع الوقوف هنا .

ماهي إلا ساعة من الزمن ونزلت الرحمات الإلهية لتعلن عن منحة ربانية جديدة وسلامة لزوجتي وأمها المرتجفة خوفا على ابنتها ، لو كانت تلبس قبعة بدل حجابها البغدادي الأصيل ( الفوطة ) لرفعتها لي وقالت : أنت على الحق الأمر شاق جدا .

لكنه لم يكن شاقا بالنسبة لي تلك الصرخات والآلام التي كانت تبلغ مسامعي أيقظت في داخلي إحساسا مضاعفا بالمسؤولية ، وزادت من إستشعاري لأحوال أبنائي في السراء والضراء ، ورفعت من قيمة زوجتي في عقلي وقلبي ، لكنها لم تغيّر من قناعة الممرضة (المسؤولة ) التي لا تعي سحر تلك الآلام ولا السعادة المضاعفة في كل يوم يستقبل به الوالدان هبة ربانية جديدة تزيد من أواصر المحبة والتكاتف في معترك الحياة .

إنها ثقافة ظالمة ياشهرزاد تحجب الشريك عن فلسفة الجمع بين الآلام و اللذة في قلب أم تلد ، وتلك أعراف سيئة تزيد من قسوة الرجال وتنصلهم عن المسؤولية ، فإن كان الرجل غير قادر على تحمل صوت آلآلم أو مشهد الوجع ، فكيف له أن يتحمل هموم التربية المشتركة، ويحمل أعباء المسؤولية عن أسرة كاملة .

لقد شهدتُ الموقف أربع مرات ، وفي كل مرة أنظر فيها الى زوجتي وهي ترضع المولود الجديد أعلم تماما لماذا وضع الله (الجنة تحت أقدام الامهات) .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]