الصمت كالوقوف على قارعة الطريق لنتأمل الأصوات والحركة من حولنا ، إمّا أن نواصل بعده المسير الى مكان آمن بعيد عن الضجيج ،أو ننحدر الى زحمة لا يبدو لها اخر .
وان كان الصمت بمعنى التأمل في لحظة ضاغطة فهو بكل تأكيد يحقق عدم التأثر وحفظ المدخلات والدفاع عن القيمة العليا في أنفسنا ، وهو لا يختلف كثيرا عن لحظة مواجهتنا للمتجهم الثاني في أحد صباحاتنا ، وقلنا في حينها : ( أن في تلك اللحظة الحاسمة رسالتان متضادتان ، الأولى قادمة من صاحبنا المتجهم مفادها : “لن يكون يومكِ سعيدا ” ، والثانية منكِ أنت ياشهرزاد ، فإمّا أن تبتسمي ابتسامة مازوخي راضخ لقرار السادي غير المعهود الذي ظهر فجأة ،وتعيشين يوما تعيسا مضطربا تواسين فيه المتجهم وتبادلينه إحساس الحزن والألم لسبب مجهول ، وإمّا أن تأخذي نفسا عميقا ، وتبعثي برسالة مضادة ” ابتسامة نابعة من القلب ” مفادها : “أنا سعيدة فابتسمْ ربما يكون يومك سعيدا أيضا ) .
نحن نستقبل في اليوم الواحد عدة طعنات ، منها مايكون مسموما أو نتيجة حماقات تتعلق بمستوى الإدراك ، ورفعة السلوك أو دناءته ، ولعلّ من أقساها كلمات جارحات ، وفي الحالات كلها مازلنا نعيش بين عمقين إثنين لا ثالث لهما ( التأثر والتأثير )وكما أسلفنا ( فإمّا أن نتأثر فنزداد غرقا،وإمّا أن نؤثر فنطفوعلى السطح).
وإذا كنا نأخذ نفسا عميقا لاتخاذ القرار المناسب ،في لحظة اصطدامنا بوجه متجهم في الصباح وقد تخلو وجوهنا من التعبير ، ونظهر جمودا عن الحركة تنطلق بعده ابتسامتنا المتحدية ،فإننا في لحظة الصمت بعد كلمات دنيئات،أوعبارات جارحات بحاجة الى اظهار تعابير التأمل ، وأعمقُها النظر في وجه المسيء من غير تعبير ظاهر،فالامساك عن الكلام ،في لحظات الطعنة، كالهروب الى طبيب محترف يتفحص الجرح في (حضرة الصمت ) ليخبرنا أن العلاج مرهون بتجاهلنا للألم وإن كان الجرح عميقا ، إنها كاللحظات التي نواجه فيها سيلا عارما منحدرا من أعلى قمة تدركها أبصارنا ، فان تعاملنا معها ببصيرة وجدنا في ذواتنا صخرة أمنة نختبئ خلفها حتى يسكن صوت الهدير،وحينها سواء بقينا صامتين ، وغيرنا مسارنا بعيدا عن مجرى السيل ،أو تحدثنا بما يبقينا في مأمن من مواجهة سيل آخر ففي كلتا الحالتين نكون قد حققنا الإنتصار .
شهرزاد : وكيف لنا أن ندرك المسار الأفضل بعد لحظات تأمل وصمت ؟
شهريار : لو تحققنا من معنى الصمت بعد الطعنة إبتداءً لعرفنا طريقنا من غير دليل ، فالصمت وفقا لاهل العلم هو قدرة الإمساك عن الكلام الباطل ، أمّا السكوت فهو القدرة على الأمساك عن الكلام في الحق والباطل ، لذلك قيل:( إن الساكت عن الحق شيطان أخرس) ، من هنا ياشهرزاد وعلى اعتبار أن الطعنات المسمومات والعبارات الدنيئات قد أتتنا بقصد ووعي ، فنحن قادرون ،بعد صمت وتامل، على الحديث بمنطق متكامل يحدد مكامن الخلل ، ويرد السفاهة الى مواطنها ،ويلقم صاحبها حجرا ، وأمّا الطعنات الحمقاوات فإن الصمت مشفوع بابتسامة ساخرة ومغادرة المكان أعظم رد يزيد صاحب الطعنة حيّرة ، ويمنحه وقتا طويلا للتفكير ، كيف لا يكون انتصارا إن اجبرنا الأحمق على التفكير والتامل ؟! ، وربما الإنتهاء عن سلوكه السيء الى الأبد .
شهرزاد : لكننا نصمت أو نؤثر السكوت في كثير من الأحيان على الرغم من أن الكلام ودي ولا يحمل نعرات السفه أو التجريح ، وربما يبقى أحدنا صامتا حتى نهاية الحوار ، ما السبب ياترى ؟ .
شهريار : أسباب كثيرة تدفعنا الى الإمساك عن الكلام في ساعة حوار قد تبدو شيقة ،الجلسات والأمسيات تجمع مستويات فكرية مختلفة ،وبرغم أننا أقررنا بأمكانية التعلم من الجميع دون استثناء ، لكان تبادل أطراف الحديث في شان ما يظهر تلك الإختلافات ، نحن نركن الى الصمت حينما ندرك أن ما قد نتفوه به لا ينفع المتحدثين ، قد نسكت للنصت ونتعلم ، وقد نمسك عن الكلام لأبداء الإهتمام بما يقال ، ولا أخفي عليك سرا يا شهرزاد إنْ قلتُ : إن صمت العقلاء في كثير من الأحيان دلالة واضحة على أن ما يقال لا ينفعهم لا من قريب ولا من بعيد .
ولعلنا ندرك بعضا من معاني الحكمة التي تتجسد في حضرة الصمت ، حينما نعلم أن البسطاء يتناقلون الأخبار ، والمتعلمون يناقشون تفاصيلها ، أمّا العقلاء والعباقرة فلا يجادلون إلا أفكارا ، فكيف يجتمعون على طاولة واحدة ؟!.
يقول افلاطون : ” الحكماء يتكلمون لأن لديهم شيئا يقولونه ، أمّا الجهلاء فيتكلمون لأن عليهم أن يقولوا شيئا ما ” .
وعلى الرغم من تحفظي على لفظ الجهلاء على قاعدة ( كل شيء بعد الفهم سهل ) وإن التعلم كفيل بمحو هذه الصفة ، فإنني أتفق مع الفيلسوف العظيم على أن الحكماء لا يتحدثون إلا لإضفاء جو من المعرفة والتدبر لما يدور في فلكنا من أسرار الحياة والقيم العليا والمبادئ القويمة، والغالبية العظمى عنها غافلون .
وقد يجمع المثل الشهير (اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب في بعض الأحيان) معاني ما تطرقنا إليه هنا .
وعادة مايقع صاحب الفكر النير بإشكال كبير حينما يلتزم الصمت ،ويكون محاطا باهتمام المتحدثين ، وهم ينتظرون منه كلمة واحدة تؤيد ما يتداولونه من أخبار وحوادث ، وهو لا يجد فكرة أو عمقا فيما يقولون.
والمفارقة أن يكون الصامت من البسطاء فلايجد مايقوله ، فيتحرى في داخله عن عبارات تسعفه من دون فائدة ، لكنه متأنق ، ويبدو مظهره جذابا ، فتنجذب إليه النظرات ، وهو عاجز عن الكلام ، وربما يعلم ، في قرارة نفسه ، أنه في مأمن من حرج أكبر حتى يتكلم ، وفي كثير من هذه المواقف يدرك أهمية ان يتعلم حتى يكون قادرا على مواكبة مايدور من حوله .
يقول أبراهام لينكولن ” ان تظل صامتا ويظن الناس أنك أحمق أفضل بكثير من أن تتكلم وتثبت ذلك ” ، فاذا كان الصمت دافعا للأصغاء والتعلم فان من يصفه لينكولن بالأحمق هو حكيم في تلك الساعة لأنه آثر الصمت على الكلام .
وأخيرا ياشهرزاد .. أجزم بأن أعظم لحظات الصمت تلك التي نتلقى فيها تأنيبا غير مستحق ممن نحب ، فنصارع (الأنا) بكل معانيها ، لنثبت لأنفسنا أن المحبة التي تتدفق من بين أضلعنا أعظم بكثير من أن تسيء لمن نحب وإنْ جار علينا .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]