17 نوفمبر، 2024 3:18 م
Search
Close this search box.

من وحي شهريار وشهرزاد (3) بالمحبة نكسر هالات الغرور

من وحي شهريار وشهرزاد (3) بالمحبة نكسر هالات الغرور

شهرزاد : تعرفنا في حوارنا السابق على الأسباب التي تدفع من يدعي العلم ولا يملكه نحو الغرور فما بال الجهلاء يتعالون على الناس من حولهم ؟!

شهريار : أجد أن المتكبر بغير علم يصنع من حوله هالة يختبئ خلف ضوئها الخافت ظنا منه أنها تخفي عيوب شخصيته السطحية ، وهو من حيث يدري أو لا يدري يتصنع تجهما مذموما على وجهه ، ويحيط نفسه بإعجاب مكذوب ،وهو ذاك المتغطرس في عيون الناس الذي يتتبع العثرات ليقول لنفسه قبل أن يحدث من حوله : (هاهو من تظنونه فطنا ذكيا يخطئ ويتعثر ،وأنا أفضل منه بكثير).

وإني لأنظر الى الواحد من هؤلاء بعين الرأفة لا الإشمئزاز ،فهو ممن قال فيهم حكماء العرب :(إنه لا يدري ويدري أنه يدري وذلك جاهل فعلموه ) ، غير أن إحساسه بالفارق بينه وبين المتعلمين ، واتكاءه على مال كثير ،أو جاه قديم، أو سمعة عائلة طيبة يزيد من حماقته وتكبره على الناس ، هو يردد دائما: (أعلم ذلك قبل أن تنطق به) ، وهكذا يعيش داخل هالة الثناء لذاته المنكسرة ،وبهاء صورته الذي لا يراه غيره ليبقى جوهره هشا ،وتذكّره نفسه اللوامة بحقيقته دائما ، ليتعالى على نفسه قبل أن يتكبر على الناس ، ولي صديق منذ أيام طفولتي انبرى لسوق المال والأعمال منذ صغره ، وتحاشى إكمال دراسته وهو يحظى بحب أبيه التاجر ، ولم تنقطع علاقتنا حتى الساعة ، وكلما زاد ماله زاد غروره بنفسه التائهة في ظلام الجسد ، وهي لبعيدة كل البعد عن أنوار المعرفة ،وأسرار التواضع والمحبة ، لكنني بلافخر كنت أمتلك مفاتيح محبة خافتة ،وتواضع كسيح في جوفه منذ ذلك الحين ، وإنني لأتعرض الى لوم شديد من الأصدقاء والمقربين ،غير أنني مازلت غير مبالٍ بكل كلمات النقد والعتاب ،وأحاول جاهدا أن أنمي فيه حب المعرفة والتعلم والتواضع ، وإنني لأجد فرقا عظيما بين ( بهلول زمانه ) في صحبتي ، والرجل نفسه اذا حدث الناس ،واستعرض قواته وأمواله وحكمته العرجاء ، وإنه ليتلذذ بكبريائه الهوجاء، وما إنْ فارق الناس وجاء حتى حدثني بتواضع شديد، وأستنهض في أعماقه شبح عقل رشيد ، يقول لي بهلول زمانه : أنت الوحيد الذي لا أخشى أن أتعلم منه فأنت تحبني .

والسر في ذلك يا شهرزاد أنني أنظر إليه بعين العطف والمحبة ،وأزيد تواضعا كلما دنوت منه ،ناصحا له، داعما لبعض صفاته الطيبة، علّني أرتقي به من وادي الكبرياء الى قمم التواضع .

وقبل أن تتهمينني بتحميل الناس مسؤولية أوضاع المغرورين ، دعيني أقول : إنْ آمنا بأن التغيير يأتي من داخلنا دائما ،فعلينا أولا أن نغير تصوراتنا الذهنية التي نعامل بها هؤلاء، ونبحث عن آثر بذرة الخير فيهم لنسقيها ، فإن فعلنا أزهرت أرواحهم وأقرّوا بضعفهم وبدأوا من جديد ، الخير فينا يدلنا عمّا يماثله في دهاليز النفوس المظلمة ، فلنعلمْ أننا بحاجة الى أن نلتمسه في نفوسنا أولا ، فاقد الشيء لا يعطيه عبارة لا أجدها متكاملة المعنى ، وعلينا أن نقول : فاقد الشيء لا يعرف مكامنه في نفسه حتى يجده في نفوس الآخرين .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

أحدث المقالات