17 نوفمبر، 2024 12:23 م
Search
Close this search box.

من وحي شهريار وشهرزاد (29) حكاية ” النرجسي” الألمعي

من وحي شهريار وشهرزاد (29) حكاية ” النرجسي” الألمعي

شهرزاد : كأن عاشق الكرخ الذي قصصت علينا حكايته في المرة السابقة كان بحاجة الى صدمة ترفع الستارة بين أفكاره وذاته.. هكذا هو الحال اذاً .. صدمة أو استحضار شجاعة كفيل بمصارحة الذات وتغيير الأحوال وإنْ كنّا في سوق مكتظة بآلاف الناس ، لكنني أبحث عن حلقة ناقصة في هذه السلسلة ، تلك الصدمة والشجاعة غيّرت محور التفكير، لكن ماذا عن مشاعرنا المكتوية بنيران التجريح ، أو عواطفنا المكبوتة بعد الإخفاق ؟ ، وغيرها من آثارٍ سلبية لا يندمل جرحها بمجرد تبديل الفكرة ،إو احالة التصور الى اتجاه آخر ؟ .

شهريار : أكذبُ عليك إن قلت إننا نعيش في الجنة حيث نحصل على مانريد بمجرد التفكير فيه ، وقبل أن نطلبه بألسنتنا ، تلك المصارحة ياشهرزاد كبذرة ستنبت شجرة مثمرة نزرعها في أرض جرداء مارواها الماء ولا عرفت النماء ، وهي بعد المكاشفة وحرث لامس الأعماق أباحت لنا للمرة الاولى ان نبذر فيها الخير، فإنْ رويناه بأفعالنا كَبُر واينعَ وأثمرَ ، وحينها ستداوي تلك الشجرة كل الجراح وتظلل كل المشاعر.

نحن بتغيير أفكارنا وتطوير قناعاتنا ،نحو الأفضل ، لا نستيطع أنْ نغيّر مشاعرنا ابتداءً، لكننا نستطيع أن نغيّر أفعالنا لتتغير عواطفنا بالنتيجة .

لنأخذ مثلا حيا : في أحدى المؤسسات الإعلامية كنت ألقي تحية الصباح بوجه بشوش في كل يوم ، قسم الأخبار يمتد الى أكثر من 15 مترا طولا ، وعشرة أمتار عرضا ، وعلى الجانبين تمدت منضدتين فخمتين حتى نهاية القسم ، ولا يفصل بين جهاز الحاسوب والآخر الا فاصل خشبي صغير متعارف عليه في أيامنا هذه ، صوتي لم يكن منخفضا ، وأحرص على أن يصل الى الجميع بتحية صرت أبالغ فيها بعض الشيء آملا بأن أسمع مرة واحدة ردا من المحرر الذي يجلس في أقصى الجانب الأيسر .

وبرغم أنني المسؤول الأول في القسم إلا انني كنت أدرك مفهوم الموظف الجديد ،فهو غير مرغوب فيه حتى يثبت العكس ، فما بالكِ إنْ كان هذا المخلوق مديرا ؟! ، ربما لا يكون مرغوبا فيه الى آخر يوم له في المؤسسة .

يوما بعد يوم صرت أرفع صوتي وألقي بنظري الى الركن البعيد علّني أحظى بابتسامة مجاملة ، أو حتى يد مرفوعة ، أو كلمة مرحبا .. لا شيء من هذا على مدار اسبوعين .

ذلك المحرر كان مجتهدا في عمله متجاوبا معي خلال ساعات العمل ، لكنني من غير أن أشعر ، وبسبب تصور خاطئ ، إرتسم في ذهني عن ذلك المخلوق صورة سيئة ، كنت أرفع صوتي، وأتكلم بنبرة حادة اذا طلبت منه شيئا ،وليس بيني وبينه سوى مترين إثنين ، ولم أجد منه تعاليا ، أو كسلا، أو تقصيرا ، إلا برد التحية (بمثلها أو بأحسن منها ) ، صار ذلك حلما ، كل ذلك دعاني الى أنْ أطلق عليه لقب النرجسي ، وناديته به عدة مرات، وهو يبتسم، ويتحدى اللقب بعمل دؤوب ينفي عنه هذه الصفة ، لكنه كان عبثا يحاول ، وهو الذي يذكرني صباح كل يوم بنرجسيته وتبدل أحواله .. عجبا لهذه الشخصية ( المزدوجة)! .. كيف يكون بهذه الهمة ! .. متعاونا، ودودا ، صبورا ، لكنه متجاهل لتحيتي البشوشة ؟ .

أبت ( الأنا ) أن تتجاوز هذا المشهد اليومي ، وتناست جهود (النرجسي) ،ودماثة خلقه، وحرصه على أداء عمله ، و صار وجهي يتجهم أكثر ، ونبرت صوتي تحتد أكثر فأكثر كلما اقترب مني للحديث في شؤون العمل الذي لا يتوقف لأكثر من 10 ساعات يوميا .

مر شهر ونحن على هذا الحال ، وفي أمسية راحة واسترخاء في أحد مقاهي القاهرة قال لي زميلنا الأكبر سناً : أراك متجهما في وجه (النرجسي) ، والأنزعاج باديا عليك كلما اقترب منك ؟!.

– ألا تعرف السبب ؟ .. ألا تراه متجاهلا لتحيّتي منذ شهر كامل ؟ ..لم أسمعه يوما يردها بكلمة أو حتى بإشارة !.

ضحك الاعلامي العتيد بقهقهة معتادة لا تقاوم ، فتبسمتُ في وجهه متعجبا : ما الذي يضحكك ؟

-حقا لا تعرف أن صاحبنا يعاني من ضعف شديد في سمعه ؟!

صعقتني تلك الكلمات .. تذكرت كل المواقف في لحظات ، كان حين يقترب مني يسمع نبرة صوتي العالية ، الغاضبة منه ، ولو حدثته بصوت هادئ مرة واحدة لقال لي عفوا لم أسمعك .. ياإلهي !!

لقد كانت النبرة الحادة والمتران اللذان يفصلانه عني أحوالا كفيلة بإيصال صوتي إليه ،أمّا تلك التحية التي القيها لحظة دخولي فبعيدة عن مسامعه، هو لم يسمعني يوما أؤدي التحية ،وبرغم ذلك كان متعاونا وقورا صبورا طوال شهر كامل !.

في تلك اللحظة ياشهرزاد تغيّرت قناعاتي وتصوراتي (للنرجسي) صرت أسميه (الألمعي ) وهو يبتسم فرحا باللقب الجديد ، ما أن تغيرت نظرتي إليه حتى تبدلت أفعالي معه ، إختفت نبرة صوتي المتعالية ، وحلت مكانها نبرة ودودة عالية ، حرصا مني على أن يسمع كلامي ، لكن (الأنا المتعجرفة ) منعتني من تغيير مشاعري في لحظتها ، وظلت توسوس لي أياما قبل أن أتخذ قراراً بضرورة ألقاء التحية مرتين ، الأولى للجميع ، والثانية حينما أسير الى آخر الغرفة الطويلة، وأستدير بوجهي نحوه ،وأرفع يدي وصوتي ، وأبتسم بمحبة لأتلقى أبتسامة عريضة صادقة ،وأسمع تحية عذبة رقيقة من (الألمعي) قلبا وقالبا .

خلاصة القول : شجاعة ، ثم مصارحة للذات ، فتغيير للقناعات والتصورات ، ثم تصحيح للأفعال وصولا الى تغيير المشاعر ، وانتهاءً بإحساسِ يملا قلوبنا بهجةً ، وأرواحنا سعادةً .

يقول خبير علم النفس التطبيقي وليم جيمس :” نحن لا نستطيع أن نغير عواطفنا فورا لمجرد جعل عقولنا تفكر بذلك ، لكننا نستطيع ان نغير أفعالنا ، ومن ثم أننا سنغير عواطفنا بشكل آلي ” .

ويقول أيضا : “فالطريق الاختياري لسعادتك –اذا فقدتها- هو أن تجلس بسعادة ، وتتصرف وتتكلم وكأن السعادة موجودة هناك “.

إحساس السعادة بأيدينا ياشهرزاد ، إن فكّرنا وقلنا وفعلنا ما يجلبها الى نفوسنا ، والأهم أن نمتلك الشجاعة لتجاوز كل الهموم والبدء من جديد .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]

أحدث المقالات