18 ديسمبر، 2024 8:56 م

من وحي شهريار وشهرزاد (21) الإبتسامة التي أنقذت “أكسوبري” من الموت

من وحي شهريار وشهرزاد (21) الإبتسامة التي أنقذت “أكسوبري” من الموت

هل تعلمين ياشهرزاد أننا حينما نبتسم بصدق تنشرح لنا الصدور بلا إستئذان ، فالإبتسامة مفاتيح سحرية لا يستعصي عليها قلب متقلب او قاسٍ ، إنها كاجنحة نورانية تظلل الأرواح في لحظات صفاء نادرة “.

– كأنك تعتقد أن للابتسامة إكسيرا سحريا يسير بين مسامات القلوب القاسية ويداعب نبضها كما يفعل مع الطيبين ؟ .

شهريار : تحدثنا فيما سبق عن أثر تلك الابتسامة على السادي البيروقراطي ، وكيف أن الإبتسامة الصادقة أشعرته بأهميته وكيانه في لحظات حاسمة ، تلك الأبتسامة تفعل فعلها بلا منازع ، وتجول في خاطر القساة بعفوية غريبة ، لها تلين القلوب ، وبها تسعد الارواح ، إنها رسالة سلام يحتاج اليها القوي والضعيف ، واللعوب والشريف ،هي أقرب للقلوب من سواها ، نحن نبتسم بصدق حينما نمتلك إرادة حب الحياة ، والثقة بإمكانية التأثير على الجميع بدون استثناء .

دعيني أقص عليك مارواه الكاتب الفرنسي (انطوان دو سانت اكسوبري ) عن نفسه من أحداث جرت أبّان الحرب الإسبانية الأهلية التي تطوع فيها الكاتب ضد الفاشيين الإسبان .

يقول أكسوبري: ( أُخِذتُ أسيرا أثناء الحرب، ووضعت في زنزانة المحكوم عليهم بالإعدام ، وكانت نظرة الإزدراء والمعاملة القاسية التي تلقيتها ، كلها تدل على أن الحكم سينفذ في اليوم التالي .

ولما حل المساء داهمني من البؤس والقلق مالم أعرفه في حياتي .. ادخلت يدي المرتجفتين في جيوبي بحثا عن سيجارة قد يكون جنود العدو تركوها خطأً أثناء تفتيشهم ثيابي ، فوجدت بالفعل سيجارة واحدة إستطعت بصعوبة إيصالها لشفتَي ، لكنني لم أعثر على عود ثقاب ، فقد أُخِذتْ علبة الكبريت من جيبي .

وتطلعت من خلال قضبان قفصي بالسجن الى الجندي المكلف بحراستي ، وكنّا وحدنا في الزنزانة.. لكن الجندي لم يبادلني النظرات ولِمَ يفعل ذلك وانا بالنسبة اليه بمثابة جثة لاحياة فيها ؟ .. ناديته :”هل لديك وسيلة إشعال رجاءً” ، فألقى نظرة عليَّ ، وهز كتفيه بلا مبالاة ، ثم مشى نحوي ليشعل سيجارتي .

وفي أثناء إشعاله عود الثقاب وهو قريب مني إلتقت عيناه بعيني من دون قصد .. في تلك اللحظة إبتسمتُ ، لا أدري لماذا فعلتُ ذلك .. على المرء أن يبتسم إذا كان قريبا جدا من شخص آخر .. وما أنْ إبتسمتُ حتى شعرت وكأن شرارة إنطلقت لتفلق الفجوة بين قلبي وقلب هذا الجندي ، وتجمع بين روحينا ، وجدته يبادلني إبتسامة بابتسامة ، مع إني واثق أن ذلك لم يكن في نيته ، لقد فعلت إبتسامتي فعلها عبر قضبان السجن مع ماكان بيني وبين حارسي الجندي من حالة عداء.

إستمررت في الإبتسام وكأني صرت أتطلع الى الجندي على أنه إنسان مثلي ، لامجرد حارس سجن ، ويبدو أن نظرته المبتسمة إليّ كان لها البعد والتأثير نفسه عليه .

سالني : هل لديك أطفال ؟.

قلت : نعم .. نعم هنالك .. أخرجت محفظة جيبي بارتباك لأطلعه على صورة عائلتي ، فما كان منه إلا أن أخرج محفظة جيبه كذلك ليرني صور أطفاله ، وأخذ يحدثني عن مشاريعه وآماله المعقودة حولهم ، ووجدتُ عيني تمتلئان بالدموع وأنا أخبره عن مخاوفي بأنني لن أرى عائلتي بعد ذلك اليوم ، وأنه لن يتاح لي مشاهدة أطفالي وهم يكبرون ، وإذا بالدموع تتساقط من عينيه كذلك ، وفجأة وبدون أن ينبس ببنت شفة ، فتح حارسي قفل السجن ، وأخرجني بهدوء من الغرفة ومن المبنى .. ثم قادني عبر الأزقة الفرعية الى خارج البلدة ، حيث تركني وعاد أدراجه الى معسكره .. لقد أنقذت حياتي إبتسامة ) .

نعم يا شهرزاد تلك الإبتسامة أنقذت حياة أكسوبري ، هو لا يعرف لماذا ابتسم حينما التقت عيناه بعيني الحارس ، لكنني على يقين بأنه كان يمتلك إرادة الحياة برغم أن ساعات قليلة تفصله عن المشنقة .. سحر تلك الإبتسامة أوجد لغة مشتركة بين السجين والسجان فكان ما كان .

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]