السادية الباردة والمازوخية تحت مظلة البيروقراطية
أخبريني يا شهرزاد هل تعرفين هدفا في الحياة أسمى من انتشال إنسان غارق في ظلمات العداوة والكراهية الى أرض المحبة والعطاء من جديد؟
– حقا إنها رسالة إنسانية عظيمة ،وهنيئا لمن إستطاع أن ينجح في تحقيقها ولو لمرة واحدة في حياته ، لكنني أسأل هنا عن حالة أعتقد أن جذورها مرتبطة بالعدوانية ، وأعني السادية بمفهوم الرغبة بإلحاق الأذى الجسدي بإنسان آخر او التحكم فيه ، كأنه يتخذه عبدا مملوكا له ؟
شهريار : نعم .. السادية تتخذ أشكالا متعددة فمنها مايعني الرغبة بالحاق الضرر الجسدي ، والمفهوم العام لها يدخل حيز الإنحراف الجنسي لدى الرجل في إساءته للمراة ، لكنها تتجسد بشكل أعمق حينما يتمكن أحد الساديين من إلحاق الأذى بمخلوق سواءً كان إنسانا أو حيوانا ، ويجبره على تحمل الألم والإنصياع لأوامره. ويذكر لنا آيريش فروم أن السادية أنواع : فمنها السادية الدافئة العاطفية التي تتجسد بشكل واضح في تحكم بعض المعلمين بتلاميذهم ، أو مدراء بمرؤوسيهم من دون أن تلحق آذى جسديا بهم ، لكنه يؤكد أن السادية الباردة هي أكثر الأنواع انتشارا وهي ليست عاطفية وليس لها علاقة بالناحية الجنسية،انما لها الحالة المميزة نفسها للسادية الجنسية الناعمة ،ويبقى هدفها النهائي هو التحكم ، أي فرض كامل السيطرة على شخص آخر بشكل كلي ليطيع ويكون في قبضة اليد ، كما عجينة الطين في قبضة صانع الفخار .
وكما هو معلوم ياشهرزاد فإن الضرر التي تحققه السادية الباردة هو ضرر نفسي وليس جسدي ، اذ أن السادي يقيد حرية أحدهم ، بل إنه يخالفه في كل رأي ،ويجبره على السير بالإتجاه الآخر ، ولا نريد هنا أن نتحدث عمّا يسمى بالسادية النافعة التي تغدق النصح المفيد على الأبناء والبنات والطالب الخلوق ، وغيرهم من فئات المجتمع التي تحتاجة الى تقويم عام بسبب قلة خبرتها في الحياة .
إن السادية الباردة عامة ناشئة من تعلق غالبية الناس بحب السيطرة ،ولو بابسط أشكالها ،وذلك لأسباب بعضها يتعلق بالعدوانية، كما ذكرتِ أنتِ ،للشعور بالذات المفقودة ، او كشكل من أشكال الإنتقام من الماضي بضحية حاضرة ، أمّا الأسباب الأخرى التي تصنع غالبية الساديين برأيي ، فهي حصيلة إفتقادهم لقدرة الإقناع وصفات القيادة الحقيقية ،لكن أحدهم يجد في المقابل المُنقاد الخنوع الذي يرضا بتحكمه ،ويتحمل ألم السيطرة العمياء ، بل إنه يشعر بمتعة الألم ،ويرضى بالفشل والإهانة ، أو التحقير أو الإيذاء اللفظي أو البدني على يد السادي ، وهو يكرر هذا السلوك بشكل شبه قهري ، ويجد لذة خفية في ذلك ،فهو يعشق دور الضحية والمظلوم والمقهور والمُعَذَب، وهذا هو مايسمه علماء النفس بالمازوخية العامة او المازوخية الأخلاقية.
وعلى أختلاف الأسباب الموجبة للسادية الباردة فإن أصحابها لا يحملون قلوبا طيبة في صدورهم ، وهم لا يقلون ضراوة عن المتكبرين والمتجبرين ، وإنْ انحسرت دائرة تاثيرهم السلبية ، ونجدها بصورة جليّة في الطبقة البيروقراطية المطبقة للقانون بحذافيره ، وهم بطريقة ما متَحكمِون ومُتَحَكّمٌ بهم ، فهم في غاية الطاعة لرؤسائهم ،ولايشعرون بالراحة إلا بتطبيق كل صغيرة وكبيرة تصدر عن السادي الأكبر ،بل إنهم يتجاوزون مبدأ ( القانون والقانون فقط ) ليظهروا الولاء لـ(سيد القانون) ، بهذا الأسلوب يتخلصون آنياً من حالة الإضطراب الدائمة في مواجهة خطر الحياة ، والناس عندهم مقابل القانون مجرد أشياء عليها الإنصياع لإرادة التحكم القهرية التي يمثلها (المازخوي) ليتحول بين لحظة وأخرى الى السادي الأصغر المتحكم بالمواطن البسيط الذي تعذر عليه العبور من على خطوط المرور يوم نسي نظارته في المنزل، واستطاع بإعجوبة أن يسلك طريقه بين عدة مركبات متباعدة ، لكن منبه مركبة أحد المتعجرفين أيقظ البيروقراطية لدى ضابط المرور المازاوخي الذي ترك مكتبه ومعاملات المراجعين ،ورضخ لأوامر السادي الكبير، وناب عنه بالوقوف في إحدى إشارات المرور بحركة إستعراضية ساعة مرور موكب الوزير.. لم يأتِ الوزير ، وتعسر على صاحبنا أن يكون مثلا يقتدى للمازوخية ، وانتفخت أوداجه ، وعادت إليه حالة الإضطراب والخوف، وكان منبه مركبة المتعجرف لحظة التحول والفرج ، في تلك اللحظة تحديدا عادت إليه معالم السادية الباردة ، وانطلق نحو الرجل المسن متسلحا بـ(القانون والقانون فقط) ، الرجل تعذّر كثيرا من صاحب الوجه المتجهم ، وشرح مرارا سبب مخالفته للقانون لكنه أصر على الحاق الأذى المعنوي به ليشعر بالسيطرة والتحكم ، حمله معه في سيارة الدورية الى موقف المديرية ، ورمى به خلف القضبان قبل أن يطلق قاضي التحقيق سراحه بكفالة مالية .
هؤلاء ياشهرزاد طبقة متسلطة ومحكومة في الوقت ذاته تحت عباءة القانون،وهم يتنفسون حب السيطرة كالمحتضر ساعة نزع الروح ، ويرتعد أحدهم في أحوال السكون، ويفضل الموت على كسر روتين البيروقراطية ، فهي عالمه الوحيد والبعيد عن عالم الأحياء .
شهرزاد : أخيرا أقررتَ بصعوبة الحال لعلاج من وصفتهم بالمحتضرين ، والمحتضر كما تعمل لاينفعه دواء.
– لن أعترض على ماتقولين لكنني سأضرب لك في المرة المقبلة مثلا حيا لعلاج أحدهم .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]