22 ديسمبر، 2024 7:35 م

من وحي شهريار وشهرزاد (13) حكاية المسؤول الطيب ( الجزء الثاني)

من وحي شهريار وشهرزاد (13) حكاية المسؤول الطيب ( الجزء الثاني)

شهريار توقفنا في المرة السابقة عند سؤالك ياشهرزاد عمّا سيفعله المسؤول الطيب وهل سيحقق العدالة أم سيرضي الجميع ؟

واقول جازما : إنه سيحقق الإنصاف على أقل تقدير لكن بعد صبر طويل ، إن أصحاب القلوب الطيبة لا يحسنون سياسة سوء الظن ، ولايتلقفون العثرات ،ولايترقبون الزلات ، فمن كانت صفته المبادرة بالصفح والتماس الأعذار للآخرين -على إخلاف محاسنهم ومساوئهم – لايمكنه أن يكون حديّا في بادئ الأمر ، وهو يتجرع آلام إخفاقات من حوله على أمل الإصلاح ، هو ينظر بعين الرقيب لكنه يجعل الحساب في آخر المطاف ،ولسان حاله يقول : (إتقوا غضب الحليم اذا غضب) .. تلك عبارات لا يسمعها إلا الطيبون من حوله ، وتشحذ هِمَمَ المخلصين لمزيد من العطاء ، لكنهم ليسوا في مأمن من المتربصين ، وهذا مايشعرهم بمرارة وإنْ كانت على نحو أقل من سابقاتها في عهد المتجبر الراحل ، أنوار روحه المتناسقة من الرقة في قلبه تكشف له ماوراء الإبتسامات الصفراوات ،وتنبؤه بصدق المحبة في قلوب المتكاتفين معه ، ولو علم المتجبرون والمتكبرون والمراؤون والكسالى ما تكشفه بصيرة المسؤول المتلطف بالجميع لولّوا من غير رجعة ، هو يدرك بتلك البصيرة المتهيكلة من نفسه المطمئنة ،وذهنه المتوقد ، وقلبه المتدفق بالمحبة ، إن المتجبر أضعف من أن يكون صادقا فيما ساقه من أسباب جعلته قاسيا (بعض الشيء ) على الموظف الذي أخبره بكل لطف بوجود خطأ يحتاج الى إصلاح في إحدى المهمات اليومية .

وهو يعلم تماما إن المتكبر كان قاصدا في اساءته لعامل النظافة في المؤسسة ،أو الموظف البسيط وإنْ ذرف دموع التماسيح ، أمّا الكسلان فإن كذبه كان مشكوفا لتلك النفس النورانية منذ الوهلة الاولى ، وكان عليه أن يكون أكثر مكرا علّه ينجح في إحدى خدعه ،لكن صاحبنا آثَرَ الصبر كشأنه دائما علّ المتحاذق يفيق من غيبوبته يوما ويحقق ذاته في العمل.

إن تحقيق العدالة يحتاج الى شدة تفوق قساوة الظالم وعزيمة تمحو آلام المظلوم ، وصاحب القلب الطيب يمتلك العزيمة لكنه يفتقد الى الشدة ، فيحقق الإنصاف للمظلوم ، لكنه لايحقق العدالة غالبا الا في وقت متأخر .

شهرزاد:حيرتني حقا ..كيف له أن ينصف المظلوم من غير أن يقتص من الظالم ؟

– هل نسيتي يا شهرزاد إن هذا المظلوم الذي نتحدث عنه يحمل بين جنبيه قلبا نابضا بالطيبة ، وروحا مسامحة ونفسا مطمئنة ، ولأن صاحبنا المدير يدرك تماما هذه الصفة في الطيبين من حوله ، فإنه ينصفهم بإستنهاض صفة العفو فيهم إبتداءً ، لتسكن أرواحهم ، ثم يثني عليهم بما هم أهل له فيحقق الإنتصار لذواتهم ، ثم يعدهم بعدم مسامحة المسيئين في المرة المقبلة ، ذلك إنصاف نفسي ترضى به النفوس الكبيرة من أصحاب القلوب الطيبة ، نحن لا نتحدث هنا عن الإنفعاليين الذين يتأثرون بأتفه الأسباب ويرضون بأبسط اعتذار ، إنما عن أصحاب قلوب قوية تدوس على جراحاتها لتحقق ذاتها المترفعة عن الإنحدار الى وديان الكراهية والظلم والإستبداد ، لكنهم كصاحبنا المدير يرددون في أنفسهم :إتقوا غضبة الحليم .

إنها قلوب تسع أطياف المحبة بكل ألوانها ،وتُحَجِّم ظلمات الكراهية بكل أشرارها ، وإنها لتجاهد آلام (الأنا) أعظم جهاد في أعماقها ،لتحافظ على نقاء سريرتها ومعاني إنسانيتها .

يقول نجيب محفوظ : حين يخبرونك عن جهاد النفس الحقيقي ، أخبرهم أن أصدق جهاد هو قدرتك على أن تبقيَ هذا القلب نقياً صالحاً للحياة الآدمية بعد كل تلك المفاجآت والعثرات والإنكسارات والهزائم.

ولا أظنها ياشهرزاد هزائم أبدا ، إنما هي انتصارات شخصية تجتث معاني الشر من النفوس ، وينتشر آثرها الى عقول الجميع ، يقر بها المتقلبون بين الخير والشر ، وتحيّر المتجبر ، وترهق المتكبر ، حتى الكسالى يتمنون في قرارة أنفسهم أن يمتلكوا عُشرَ هذا العزيمة لتسيير شؤون حياتهم .

شهرزاد : لكن الا ترى ان المعنى المتحقق من فعل المسؤول هنا إستغلال القلب الطيب لصالح المسيء ؟ .

شهريار : إن الإنصاف الذي نتحدث عنه يأخذ معنى المناصفة ،فكأن المظلوم حصل على نصف الحقوق ، والنصف الآخر تنازل عنه بنفس متعففة ، وقد يكون الأمر في ظاهره استغلالا ، لكنه في جوهره اغتنامٌ لعطاء القلوب البيض ،المسؤول الطيب يدرك تماما أنْ وراء تلك القلوب الرقيقة طاقات هائلة قادرة على استعاب القساوة المتسربة من قلوب الضعفاء الساعين الى إظهار عدوانية تشعرهم بقوة خاوية من كل إرادة إلا إرادة تعويض الإضطراب العظيم الذي يسيطر على أفعالهم ويحجب عن قلوبهم كل أنوار المحبة والرحمة ، وإني لأقر لك ياشهرزاد بأن تحقيق العدالة هو آخر ما يصل اليه صاحبنا المسؤول الرحيم ..وللحديث بقية.

مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

للتواصل مع الكاتب : [email protected]