من وحي شهريار وشهرزاد (24)
في نفوسنا طفل يبتسم
حينما يبتسم الطفل تشرق الدنيا بأنوار ربانية لامثيل لها ، ولا نملك إلا أن نبتسم معه ، وربما نضحك ، ذلك أن نقاء السريرة سر سعادة لا تنضب .
لو كنتِ ياشهرزاد في حالة حزن شديدة ، ودموعك تتقاطر كالسيل والقت الأقدار في حجرك طفلا رضيعا مالبث أن رفع رأسه اليك وابتسم ، هل تملكين إلا ان تبتسمي او تضحكي في لحظتها ؟
تلك الإبتسامة الساحرة العفوية تمحو أشد حالات الحزن والألم ، وتزيح القساوة عن القلوب ، وتعيد البهجة الى النفوس، وترسم ملامح السعادة على الوجوه إينما حلت .
شهرزاد : حقا إنها لا تقاوم ، لكن ما السر في سحرها ؟.
– قد علمنا فيما سبق أن النفوس تقترب من أرواحنا النورانية وضيائها كلما ابتعدت عن الجسد وشهوانيته والغرائز وظلماتها ،والطفل بلا شهوة ما خلا شهوة الطعام والشراب، وهو على الغالب لايدرك معناها ، لذلك نراه يبكي ويصرخ إذا أحس بالم الجوع او العطش ، نفسه أقرب الى النورانية دائما ، إنه نقي السريرة لايعرف إخفاء مشاعره كما يفعل الكبار .. ليس لديه حل وسط ،ولا أقنعة يضعها على وجهه تخفي سحر ابتسامته ، إنه يعكس في تلك الإبتسامة الساحرة أنوار روحه الطيبة ، كأننا نرى أنوار الخالق فيها ، فلا نملك إلا أن نبتسم بهجةً ،او نضحك فرحا .
والإبتسامة البريئة بحاجة الى سريرة نقية تقترب من النورانية كما قلنا ، وكلما تقدم بنا العمر تقمصنا أدوارا جديدة في الحياة ،وعادة ما تكون مثقلة بالمسؤولية والمناصب – علت او دنت – فهي تفرض علينا أقنعة ما نلبسها لنعيش الدور كما يقولون ، حينما نواجه مسؤولا نعمل معه في المؤسسة ذاتها ، فإننا نلبس قناع التوقير المفروض علينا ، ونبتسم ابتسامة مصطنعة لا يكمن وراءها أي واعز للبهجة، أو إحساس بالإرتياح ، وحينما نكون في موقع مسؤولية أعلى ونتلقى ابتسامة المجاملة نفسها نرد عليها بمثلها ، وفي الحالات كلها نحن نلبس أقنعة تحول بيننا وبين نقاء السريرة ، وما يشرق منها من إبتسامة ساحرة .
شهرزاد : لكننا لا نجابه المسؤولين فقط ، فهنالك الأهل والأصحاب والأحباب والجيران ، فما الذي يمنعنا ياترى ؟
– قالوا قديما إنْ لكل مقام مقال ،وأقول : لكل مقام قناعه الذي لاغنى عنه للسواد الأعظم من الناس ، فهناك قناع الأب والأم ، الجار المتعالي ، الصاحب ذي الخبرة ، القريب المثقف ، الأخ الاكبر ، العم المتسلط ، الخال الفهيم ، صاحب الملايين ، الممثل المشهور ، الكاتب العبقري ، الضابط الكبير ، الوزير ، الرئيس ، وغيرها من الأقنعة كثير ، إلا أصحاب النفوس الكبيرة تلك التي وصفنها، فيما سبق ، بالقدرة على الفصل مابين العلاقات الشخصية وأحكامها في ميادين الحياة وبين سوح العمل ، ونصفُ أصحابها اليوم بالقدرة على إستحضار النفس الى عالم النورانية في لحظة واحدة وإنْ كانت غارقة في ظلمات الجسد وشهواته ، وكل ذلك في الوهلة الأولى التي نواجه فيها أحد الأهل أوالأصحاب والجيران والطيبين في كل مكان ، ذلك الإستحضار لسرائرنا النقية المنبعث من الطاقة الكامنة فينا،ولو للحظات، سيغير الأحوال ، حينها ينقشع القناع ، وتزول الأهواء، وتتعطل النوايا السيئة ، وتتهاوى الأفكار المظلمة ، وتتحجم الأحزان العظيمة ، وتخفت الآلام الأليمة ، لتشرق ابتسامة الطفل فينا ،فنسعد أنفسنا ومن حولنا أيما إسعاد قبل أن ننطق بحرف واحد.
والحد الفاصل بين تلك الإقنعة وابتسامة الطفل المختبئة بين ثنايا النفس أنْ نعيَ أنّ الابتسامة سر كل بهجة ،ومقدمة لكل سعادة ، ومفتاح كل القلوب، ومنها القلوب النابضة بين أضلعنا ،حينما نبتسم بصدق تتجسد فينا معالم الإنسانية جمعاء ، وحينما نصطنع الابتسامة نتحول الى آلة بلا حياة وإنْ فاضت منا ملامح النضارة والشباب.
يقول أمرسون :”عندما يدخل شخص سعيد الى الغرفة يكون كما لو أن شمعة أخرى قد أضيأت ، فإذا رُسمتْ إبتسامة جميلة على وجهه ، فإن النتيجة لن تكون فقط برد الناس هذه الابتسامة اليك ، ولكنك أنت ايضا ستشعر بالسعادة”.
إن الإبتسامة الجميلة التي يتحدث عنها الشاعر والفيلسوف الأميركي رالف والدو إمرسون ، هي تلك الإبتسامة الصادقة والنابعة من نفوسنا لحظة اقترابها من النورانية ، وهي ليست كفيلة بإضفاء جو من السعادة على صاحبها والمتلقين لها فحسب ، وإنما هي قادرة على شفاء النفوس من الأحقاد والكراهية،ومحو الذكريات السيئة التي تدفعنا الى التجهم لحظة لقائنا فردا من الخواص او خواص الخواص ، فلانذكر له الا موقفا سيئا ، وننسى كل مواقفه الطيبة في لحظة المواجهة .
إن ( الأنا ) المتعالية تسابق الطفل القابع فينا ، تدفع بالنفس البشرية نحو الظلام ، ولا تذكّرُها إلا بالفعل السيء ، وتنصحها برد فعل أسوأ ،والطفل يدفعها الى الأنوار ولا يذكّرها إلا بموقف جميل ويرشدها الى رد فعل أجمل ، فان سبق الطفل ( الأنا) تَبَسمنا،وان سبقته عَبَسْنا ، وعلى فرضية أننا جميعا في الأصل نمتلك قوة الإستحضار لنفوسنا نحو الخير والنور ، فكلنا قادرون بالنتيجة على نصرة سريرتنا النقية لتتجلى الإبتسامة مع كل لقاء ، ولقاءً بعد لقاء نشفى من علل القلوب وعطب النفوس ، فتُمحى من ذاكرتنا كل المواقف السيئة ، وتكاد تتلاشى (الأنا) المتعالية ، لولا أنها مصدر تحفيز لا يموت جُبلت عليه البشرية جمعاء ، غير إنها كالضارة النافعة ، فلولا إدراكنا لمعاني الشر ما عرفنا معاني الخير ، وماسعينا لها كمصدر للسعادة .
مقتبسات من مؤلفي : شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة
للتواصل مع الكاتب : [email protected]