23 ديسمبر، 2024 1:11 ص

من وحي الذكرى الشريفه للمولد النبوي

من وحي الذكرى الشريفه للمولد النبوي

التعايش السلمي كما ارسى دعائمه النبي الاكرم (ص)
يحتفل المسلمون في مشارق الارض ومغاربها في مثل هذه الأيام من شهر ربيع الاول من السنة الهجرية بذكرى المولد النبوي الشريف … ذكرى ميلاد خير الأنام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، خاتم النبيين … ونعمة الله التي وهبها للبشرية جمعاء فاضاء بها الظلمات وغير مفاهيم الحياة على وجه الارض من خلال بث قيم التوحيد والتكافل، والتسامح، والمحبة في مجتمع سادت فيه قيم الجاهلية البغضاء والاقتتال … لتنتشر بعد ذلك وتعم قيم الرسالة الاسلامية السمحاء في شتى بقاع الارض على مر الازمان لتكون رحمة لبني البشر. ليحق قول الخالق:
“وما أرسلناك الا رحمة للعالمين” 
فالنبي الأكرم هو الذي كرمه الخالق جل وعلا  فاثنى على خلقه القويم حيث قال: 
“وأنك لعلى خلق عظيم” 
كما ان خير تكريم وتشريف للنبي الأكرم هو ان ربط الله عز وعلا اسمه الأعظم باسم نبيه الاكرم في شهادة تمثل الركن الاول من أركان الدين الحنيف “اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا رسول الله” … فما أعظمه من تكريم وما أقدسه من تشريف.
ان الاحتفال بالذكرى العطرة لمولده الشريف إنما هي محطة مهمه لتدبر سيرته العظيمة … والتأسي بأخلاقه الكريمة … فهو القائل “إنما بعثت لإتمم مكارم الأخلاق” 
فالمولد النبوي الشريف ذكرى عظيمة … وفرصة ثمينة للمسلمين عامة لاستذكار الاعمال الجليلة والمبادئ السامية، والقيم الرشيدة، والمثل العليا، التي أرسى قواعدها النبي الأكرم لتكون مصابيح نور وقناديل هدى ودليل عمل ترسم للمسلمين ملامح الرسالة الاسلامية السمحاء.
وذكرى المولد النبوي الشريف في هذا الوقت بالذات لها طابع متميز. فهي تمثل وقفة ومحطة متميزة في حياة المسلمين للتأسي بمكارم الأخلاق ونبل الخصال سيما ونحن نعيش في عالم تعصف فيه الْفِتَن وتنعدم فيه قيم ومفاهيم العدالة والصفح والتسامح وتعلو فيه الأصوات الهجينة والأفكار الاقصائية التكفيرية المنحرفة من دعاة التكفير من أدعياء الاسلام والإسلام ورسوله منهم براء.
فبافعال مثل هؤلاء وتوجهاتهم وأفكارهم المنحرفة وأقوالهم الملوثة وتوجهاتهم الممقوتة أصبحت كلمة الاسلام في عصرنا هذا ويا للأسف ترتبط بمصطلحات مقيتة مثل الإرهاب، والقتل، والتكفير، والإقصاء، والحقد، وانتهاك الحرمات والأعراض، والتفجيرات، والسيارات المفخخة الخ … 
وفي هذه العجالة وددت ان أقف ولو بشيء من الإيجاز والاختصار الشديدين امام محطة واحدة من الإرث الغزير والمواقف العظيمة لنبي الرحمة في تعامله مع خصومه ومع من اختلف معهم من اتباع الديانات الاخرى … والتي تمثل دروس بليغة ومناهج  عملية ذات دلالات راسخة لكل من اعتنق الاسلام، لا بل للإنسانية جميعا.
وأشير هنا الى العهد الذي ابرمه نبي ألرحمه مع نصارى نجران. وهو واحد فقط من بين العديد من العهود التي عقدها النبي مع ممثلي الديانات وممثلي القبائل آنذاك على طريق تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي إبان سنوات البعثة النبوية الشريفة في سبيل ترسيخ قيم الاسلام وبث رسالة الدين الحنيف.
تشير مراجع السيرة النبوية والتاريخ الاسلامي ان العهد الذي ابرمه النبي الاكرم (ص) مع نصارى نجران شمل العديد من البنود التفصيلية التي رسمت ملامح العلاقة السلمية بين المسلمين والمسيحين في الوقت الذي تحفظ للمسيحين حقهم في ممارسة طقوسهم على أتم وجه. 
سأذكر في هذه العجالة نماذج من بنود الاتفاق كما دونها المؤرخون، نذكر قسما منها على سبيل المثال لتأكيد الدلالة. حيث جاء في العهد:
١. ان احمي جانبهم (اي مسيحيي نجران) وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان 
٢. ان احرس دينهم وملتهم أين كانوا بما احفظ به نفسي وخاصتي وأهل الاسلام من ملتي
٣. ان إدخلهم في ذمتي وميثاقي وأماني من كل آذى ومكروه او تبعه، وان أكون من وراءهم ذابا عنهم كل عدو يريدني وإياهم بسوء
٤. لا تغيير لأسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم، ولا إدخال شئ من بناءهم في شئ من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين.
٥. ان لا يجبر احد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الاسلام. “ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي أحسن”، ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم آذى المكروه حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد.
٦. ان أجرم واحد من النصارى او جنى جناية، فعلى المسلمين نصره والمنع والذب عنه، والدخول في الصلح بينه وبين من جني عليه.
٧. لا يرفضوا ولا يخذلوا ولا يتركوا هملا، لآني أعطيتهم عهد الله على ان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
٨. لهم ان احتاجوا ترميم بيوتهم وصوامعهم، او شئ من مصالح أمورهم ودينهم، الى رفد من المسلمين وتقوية لهم على ترميمها، ولا يكون ذلك دينا عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاء بعهد رسول الله موهبة لهم ومنة لله ورسوله عليهم.
في قراءة سطحية لهذا العهد يمكننا ان نخلص الى الحقائق التالية:
اولا: ان هذا العهد ما هو الا وثيقة تاريخية أسست الى مبادئ التعايش السلمي بين الأفراد والجماعات وبين كافة الطوائف والأديان … وهو الذي تنتهجه الكثير من البلدان في العصر الحديث. كما انه دليل عملي على احترام الاسلام لحرية الرأي والمعتقد وممارسة الطقوس …  وهو ما تؤكد علية بنود التشريعات الدولية في مجال حقوق الانسان.
وعلينا كمسلمين ان نفتخر ونتفاخر بان الاسلام بنهج نبيه الكريم وتعاليم القرآن الساميه قد أرسى قواعد التعايش السلمي في المجتمعات وحفظ حقوق الأقليات منذ مايزيد عن أربعة عشر قرنا. 
ثانيا: ان هذا العهد لم يكن يعني نصارى نجران حصرا، إنما هو نموذج للتعامل مع الديانات الاخرى او التجمعات مهما اختلفت توجهاتها الدينية والمذهبية والعرقية والثقافية. وما يؤكد هذا ما أورده المؤرخون في مقدمة العهد حيث ينص “هذا كتاب أمان من الله ورسوله للذين أوتوا الكتاب من النصارى من كان منهم على دين نجران والنصرانية، كتبه محمد بن عبد الله، رسول الله الى الناس كافة؛ ذمة لهم من الله ورسوله”. 
وفي هذا النص إشارة واضحة وصريحة بان العهد يعتبر الى كافة الناس وبهذا يشير الى عمومية التوجه في الخطاب. 
ثالثا: أن الالتزام بنص العهد لم يكن محددا بمسلمي الفترة الزمنية التي صدر فيها، بل هو ملزم لكل المسلمين في كل زمان ومكان. وما يؤكد هذا ما أورده المؤرخون في مقدمة هذا العهد حيث ينص:
“انه عهد عهده الى المسلمين من بعده. عليهم ان يعوه ويعرفوه ويؤمنوا به ويحفظونه لهم، ليس لأحد من الولاة نقضه، ولا تعديه الى غيره، سوى الشروط المشروطة في هذا الكتاب. فمن حفظه ورعاه ووفى بما فيه، فهو على العهد المستقيم …  والوفاء بذمة رسول الله. ومن نكره وخالفه الى غيره وبدله فعليه وزره، وقد خان أمان الله، ونكث عهده وعصاه، وخالف رسوله، وهو عند الله من الكاذبين”.
وفي هذا إشارة واضحة لا تقبل الشك بان من لا يتبع بنود هذا العهد من المسلمين في التعامل مع الأديان الاخرى في كل زمان ومكان إنما قد خان ألامانة ونكث عهد الله وخالف تعاليم رسوله الكريم وهم من الكاذبين والمنافقين. 
رابعا: ان ما جاء في العهد ما هو الا موقف مبدئي ثابت في الاسلام الحنيف تأكد في الكثير من الآيات القرانية وفي احاديث وأفعال الرسول الكريم. ومن الجدير هنا الإشارة الى حديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عندما سئل: من هو المسلم يا رسول الله، فأجاب (ص): “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده”
والإشارة للناس في هذا الحديث هي أشارة عامه اي كل الناس بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والثقافية وبغض النظر عن ألوانهم او اللغة التي يتكلمونها. 
كما ان الأذى لا يقتصر على الأذى الجسدي او المادي لكنه يتعدى ذلك الى الاذى المعنوي بالكلمة أيضاً او بالهمس. 
وإذا كان موقف الاسلام من عامة الناس بهذا الوصف الذي وصفه الحبيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم …  فكيف يكون الأمر بالنسبة لمعتنقي الدين الاسلامي الواحد وان تعددت طوائفهم … 
او كيف يكون الامر من معتنقي الديانات الاخرى والذين وصفهم القران الكريم بأنهم “اقرب مودة للذين آمنوا” والذي ربط هذه المودة الإيمانية بان “منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون”.  
ان ما يجري في عالمنا الاسلامي من فتن تصل في غالب الأحيان الى القتل بأساليب شتى … والتمثيل بجثث القتلى … او التهجير … او الاعتداء على الحرمات …  وبيوت العبادة … والرموز الدينية … او الاستحواذ على الممتلكات … ماهي الا صورة من صور الجاهلية البغيضة التي جاهد النبي الأكرم لمحاربتها … 
وهل كان هذا ليحصل لو ان موءججي هذه الفتن اتخذوا من احكام الله منهجا ومن سيرة نبيه الأكرم قدوة ودليل ومنهج عمل. 
من هنا يأتي الدور المحوري الذي تضطلع به المرجعيات الدينية من كافة الأطراف في نبذ الأفعال الشاذة … وإدانة الأفكار المنحرفة التي لاتمت الى الاسلام وتعاليمه بصلة.
كما اود ان أعود قليلا الى الدور الكبير الذي تضطلع به المؤسسات الاسلاميه في المهجر عامة حيث المجتمعات المتعددة الأديان والثقافات … بان تقتدي بخطى ونهج وأقوال نبينا الأكرم في ترسيخ قيم المحبة والألفة والتعايش السلمي المبني على أسس الاحترام المتبادل بين المسلمين اولا …  وبينهم وبين الفئات الاخرى في المجتمع – اي مجتمع – ثانيا … لكي تنعكس الصورة الحقيقية للإسلام كما جسدها الرسول الأكرم وسار عليها الائمة الأطهار من اهل بيته والصالحين من الصحابة والأولياء