23 ديسمبر، 2024 2:00 م

من هو رجل الدولة ؟

من هو رجل الدولة ؟

-1-
لن يكون رجل دولة مَنْ يرى نفسه مستغنيا عن مشاورة ذوي الحكمة والتجربة ، واستمزاج آراء ذوي الخبرة من العلماء والمهنيين …

إنّ مشكلة العراق هي الابتلاء بمن يختصر البلد بذاته ..!!

وكنّا نحسب أنّ سقوط الصنم الكبير سيسدل الستار على مثل هذا الطراز من الحكّام، ولكن التجربة دلّت على أنّ (المرض) انتقل بطريقة (العدوى) الى آخرين ..!!

واللبيب يلتقط الاشارة ويفهم المغزى .

-2-

من المفارقات الغريبة أنّ نضطر للمقارنة بين (احمد بن طولون) حاكم مصر في القرن الثالث الهجري – وبين بعض السلطويين المعاصرين ، لنجد الاول يتسم بصفات ” رجل الدولة ” الذي لا يُضيّع فرصة الاستفادة من ذوي التجربة ، بينما نجد الآخرين لا يعتنون الاّ بأولادهم وأصهارهم، بعيداً عن مقتضيات الحكمة والحنكة السياسية والادارية …

-3-

قال المسعودي في مروج الذهب /ج1/ص268 :

{ وقد كان أحمد بن طولون بمصر ، بَلَغَهُ في سنة نيف وستين ومائتين- أنّ رجلا بأعالي بلاد مصر من أرض الصعيد ، له ثلاثون ومائة سنة من الأقباط ممن يشار اليهم بالعلم من لدن حداثته ، والنظر والاشراف على الآراء والنِحَل من مذاهب المتفلسفين من غيرهم من أهل الملل ،

وأنّه علاّمة بمصر وأرضها ، من بَرّها وبحرها ، وأخبارها وأخبار ملوكها ،

وأنّه ممن سافر في الأرض ،

وتوّسط الممالِك ،

وشاهد الأُمم من أنواع البيضان والسودان ،

وأنه ذو معرفة بهيئات الأفلاك والنجوم وأحكامها ، فبعث (احمد بن طولون) بِرَجُل من قوّادِهِ في أصحابه ، فحمله في النيل اليه مكرّما ،

وكان قد انفرد عن الناس في بُنيان اتخذه ، وسكن أعلاه ، وقد راى الرابع عشر من ولد ولده ،

فلما مثل بحضرة (أحمد بن طولون) نظر الى رجلٍ دلائل الهرم فيه بَيّنة ، وشواهد ما أتى عليه من الدهر ظاهرة ، والحواس سليمة ،

والقضية قائمة ،

والعقل صحيح

يفهم عن مخاطَبِهِ ،

ويحسن البيان والجواب عن نفسه ،

فاسكنه بعض مقاصيره ومهّد له ، وحمل اليه لذيذ المآكل والمشارب ، فأبى ان يتغدى الاّ بغداء كان حَمَلَهُ معه من كعك وغيره ،

وقال :

هذه بنيه قوامُها بما ترون من هذا الغذاء وهذا الملبس ،

فان أنتم سُمْتُمُوها النقلة عن هذه العادة ، وتناول ما أوردتموه عليها من المآكل والمشارب والملابس، كان ذلك سبب انحلال هذه البنية وتغفريق هذه الصورة، فَتُركَ على ما كان عليه ،

وما جرت به عادتُه ،

وأحضر له أحمد بن طولون مَنْ حضره من أهل الدراية ، وصرف همته عليه ،

وأخلى له في ليالٍ وأيام كثيرة ،

يسمع كلامه وايراداته وجواباته فيما يُسأل عنه }

والسؤال الآن :

اين نحن مما صنعه (أحمد بن طولون) قبل قرون بعيده ؟

هل فكر السلطويون في استدعاء الخبراء والحكماء واستنطاقهم والافادة من تجاربهم وعلومهم ؟

أم أنهم باركوا احتلال أصحاب الشهادات المزوّرة، العديد من المواقع الحسّاسة ، وتركوا المبدعين والنابهين من ذوي الخبرة والحنكة والتجربة بعيدين عنهم يعانون التهميش والاقصاء ؟!

-3-

إننا على يقين من أنّ كبار السلطويين في العراق الجديد لو كانوا قد حاولوا الافادة من تجارب الحكماء والخبراء العراقيين، لما أوصلوا العراق الى ما وصل اليه من حالات مأساوية أمنيا وسياسيا واقتصاديا …

-4-

إنّ الرجل المُسّن الذي استدعاه (أحمد بن طولون) من الصعيد كان قبطيا، ولكن ذلك لم يقف حائلاً دون استدعائه وتكريمِهِ والاستفادة من علومه وتجاربه …

وهكذا يجب ان يكون الحال مع الخبراء والحكماء وذوي الحنكة والتجربة.

إنَّ مبدأ الرجوع الى أهل الخبرة – في الفقه الاسلامي – عابِرٌ للمذاهب والأديان والقوميات .

وهنا تكمن العبرة .

على المسؤولين الاستفادة من أهل الخبرة أيا كان مذهبهم أو دينهم أو قوميتهم .

انّهم على كل حال أبناء العراق ، والعراق لا يُبنى الاّ بهم ، سواء كانوا مسلمين أو مسحيين أو صابئة أو ايزديين ، وسواء كانوا عربا أو كرداً أو تركمانا أو من الاقليات …

إنّ طريق النهوض بالعراق الالتزام بأهداب المعايير الموضوعية ، لا التعطيل الكامل لمقتضى تلك المعايير والموازين .

واذا كانت هذه القضية مما لا يتنازع فيها اثنان على المستوى النظري ، فَهَل مِنْ متَمسِكٍ بها في الميدان العملي ؟!!

*[email protected]