14 أبريل، 2024 10:22 م
Search
Close this search box.

من هو الفيلسوف الاطول عمرًا والاغزر نتاجًا؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

هناك نكهة فريدة، وميزة خاصة حينما يكتب الفيلسوف تاريخ الفلسفة، والميزة هذه، تكمن في أن نظرة الفيلسوف للفلسفة هي ليست بالضرورة أن تكون نظرية المؤرخ عينها. والسبب بكل بساطة، أن نظرة الفيلسوف يكون فيها عمق، وتحيلي ونقد، وأما المؤرخ فهو ناقل بالدرجة الاولى واحيانا يكون ناقد. وبهذا نخاف رأي الدكتور زكي نجيب محمود في مقدمته التي كتبها في تقديمه لكتاب “حكمة الغرب” للفيلسوف برتراند رسل، إذ يقول: “ليس الفيلسوف أفضل من يكتب عن تاريخ الفلسفة، مثلما أن الفنان ليس خير من يحكم على فن الآخرين”.
ويعزو الدكتور السبب كون موقف الفيلسوف يتلون مع الفلسفات الاخرى من التي قد لا تنسجم ورؤاه. يريد أن يقول أنه لا ينقلها بمصداقية تامة، يعني قد يشوش عليها احيانا، كونها تخالف اهواءه الفلسفية والاعتقادية. وأنا لا اعتقد ذلك، لأنه الفيلسوف حينما يكتب عن الفلسفة، فإنما ينسى نفسه أنه فيلسوف، بل هنا يعمل كباحث، وديدن الباحث أن يكون محايدا، وهذا هو الصحيح.
وانما يعني الدكتور زكي بذلك نفسه، لأنه باعتقادي، أفضل من كتب عن الفلسفة وعن الفلاسفة، وأن اسلوبه في الطرح يمتاز بالعمق والتحليل والموضوعية. وهو الذي استشفيته من بعض كتبه التي قرأتها له.
وأما رأينا القائل بأن الفيلسوف هو افضل من يكتب تاريخ الفلسفة، فحجتنا هي راسل نفسه، حيث أن “تاريخ الفلسفة الغربية” والذي هو ثلاثة اجزاء، و”حكمة الغرب” في جزأين، فهما برأيي افضل كتابين قرأتهما في هذا المضمار، فالكتابان دراسات معمقة استعرض فيها المؤلف معظم المدارس الفلسفة، بالشرح والايضاح، بدأ من الفلسفة ما قبل سقراط مرورا بالعصر والوسيط الى الفلسفة الحديثة، وختمها بالفلسفة الوجودية، خصوصا في كتابه الاخير هذا.
لذلك تجد الفيلسوف، حينما يريد أن يؤرخ للفلسفة لا يبدأ بنقل المادة نفسها من المصادر القديمة، وانما يبدأ بإعطاء فكرة عامة عن المادة الرئيسة التي يريد أن يؤرخ لها، بعدها يقوم بتحليلها ومن ثم نقدها، ليعطي بعدها وجهة نظره الخاصة، واضحة وبلا رتوش.
وهذا ما لاحظناه لدى برتراند رسل في “تاريخ الفلسفة الغربية” والذي قسمه الى ثلاثة اقسام بثلاث مجلدات.
وُلد برتراند آرثر ويليام راسل في 18 أيار/ مايو عام 1872 في تريليش، مونموثشاير لعائلةٍ أرستقراطية. وكان جده رئيس وزراء الملكة فيكتوريا، وأبوه في العماد الفيلسوف جون ستيوارت مل.
فهو فيلسوف وعالم إنجليزي، اشتهر بميوله الليبرالية ومعاداته للحروب. تلقى عدة جوائز مهمة من ضمنها جائزة نوبل الفخرية في الآداب. وقد حصل عام 1950 على جائزة نوبل في الآداب لشجاعته في حرية القول والفكر.
لم يتلق راسل في حياته تربية دينية فعلية على الرغم من الجو الديني المحيط به، وأظهر اهتماماً كبيراً بالرياضيات والفكر الديني. وفقاً لسيرته الذاتية التي كتبها بنفسه، فقد استنتج عدم وجود إرادة حرة أو حياة بعد الموت في عمر الخامسة عشرة؛ متأثرًا بهذا بالفيلسوف اليوناني أبيقور، ليهجر بعدها حجة “المسبب الأول” التي قال بها ارسطو وسار على نهجها معظم فلاسفة الاسلام، كحجة لتأكيد وجود إله ويصبح مادياً بعمر الثامنة عشرة، يؤمن بالمادة كأساس للحياة وللوجود.
وقد آمن راسل مذهب اللاأدرية، وحجته على عدم وجود اله هي نظريته التي اطلق عليها ابريق الشاي السماوي، فـ “ابريق الشاي السماوي، هو حجة منطقية استخدمها راسل لتبيان أن مسؤولية الاثبات تقع على المدعي، خصوصاً في الأديان والميتافيزيقيا. الحجة تفترض الادعاء بوجود ابريق شاي يدور حول الشمس في مكان ما بين الأرض والمريخ، هذا الإبريق صغير جداً بحيث تتعذر رؤيته بالعين أو بالتلسكوبات حتى.. يقول راسل أن طرح هذا الادعاء سيجعل الجميع يطالبون بدليل وجوده، لكن بنفس الوقت فلا يوجد أي دليل على عدم وجوده ولا يمكن اثبات ذلك. من المثال يناقش راسل بأن الإثبات يجب أن يكون من مقدم الادعاء لأن العديد من الأشياء لا يمكن إثبات عكسها أصلاً لكن ذلك لا يجعلها مقبولة بمجرد عدم إمكانية دحضها”.
وهذه النظرية، بعضهم أيدها، والبعض الآخر استهجنها، وعدّها فكرة “سخيفة” لا يمكن لفيلسوف أن يطرحها كفرة تناقض نظرية وجود اله للكون، دبر الامور ثم ابدعها من لا شيء.
لكن أفكاره المنطقية قد ساهمت في كثير من الإنجازات الحديثة في علم المنطق وقواعد الرياضيات.
وفلسفة رسل غير المؤمنة كئيبة، نظرة التشاؤم واضحة عليها، فزعمه بعدم وجود إله يجعل الإنسان وحيداً في العالم، فاقدا للعون والمساعد في هذه الحياة المترامية الاطراف، الحياة المخيفة، وعندما يدرك الإنسان هذا، ويشعر بفظاعة العالم في قلبه، ويتحدى ذلك بشجاعة ويكف عن الشكوى والرثاء لنفسه، سيعرف الإنسان معنى السعادة. فالسعادة هي غاية الحياة، لا يصل إليها المرء إلا بمواجهة الخوف والقضاء عليه بشجاعة، والتفكير الحر والرأي المستقل، وجعل الطبيعة كلها بما فيها طبيعة الإنسان، موضوعاً للدراسة العلمية، فلا يمكن للإنسانية أن تتقدم إلا بالتزود بالشجاعة التي لا تلين لمواصلة الطريق سعياً وراء الحقيقة.
وقد أنتبه كانط على خطورة مقولة عدم وجود صانع للكون، وهو من يقف بجنب الانسان ويساعده في حالة الشدة. فجاء بحجج اخرى تثبت هذا الاله، غير تلك الحجج التي اعتبرها كانط بانها ساذجة، ولعل من اهم هذه الحجج هي الحجة الاخلاقية.
ويعتقد راسل إن للفلسفة فائدتين تقريبًا؛ أحدهما هو الإبقاء على التكهنات المتعلقة بالمسائل التي لا يستطيع العلم الآن أن يتطرق لها. المعرفة العلمية تغطي قسمًا صغيرًا جدًا من المسائل التي يهتم لها الجنس البشري، والتي يجب أن تهمه. هناك العديد من الأشياء التي لها أهمية كبيرة، والتي يتكلم عنها العلم تمثيليًا. ولا أريد خيال الناس أن يكون محدودًا ومقتصرًا على ما نستطيع معرفته حاليًا. وأظن أن من فوائد الفلسفة إيساع نظرتكم عن العالم إلى مستوى الافتراض.
وكما نوهنا فراسل يعد نفسه لا أدرياً أحياناً، وملحداً أحياناً أخرى. وهو حائر بين الموقفين، لكنه على يقين من أن الدين مآله للانقراض، وأنه يعود إلى مرحلة الطفولة من تاريخ تطور الفكر البشري، وأن المرحلة الحالية قد تجاوزته، لكن بما أن البشرية تحيا في عوز وصراع وحروب واضطهادات، وتعيش في شقاء، فهي بلا شك تحتاج، باستمرار، إلى الدين، لكن حالما تحلّ مشكلاتها سيفنى الدين مع تلك المشكلات.
ونرى إنّ الاسطورة والخرافة جزء مهم في حياة الانسان، لإنّ الإنسان كائن ميتافيزيقي، متشبث بالماورائيات.
ولعل من اهم قضيتين ركز عليهما راسل هما: السعادة والحرية، واعتبر أن الانسان اذا عاش سعيدا سيشعر بقيمة الحياة، وواجبه الموكل اليه في صراع الحياة، لأنه يعتقد أن الحياة صراع- وصراع مستمر، بين الشر والخير، اذا كان الخير هو الذي ينتصر على الشر، فأن راسل يرى أن الخير والشر متعادلان في الكفة، فتارة الخير ينتصر على الشر، واخرى أن الشر يتنصر على الخير. وهكذا هو صراعهما منذ الوجود، ولن يتوقف هذا الصراع في يوم من الايام.
يقول: “قدر نشعر بالرغبة في أن نتساءل: ما معنى الحياة، أن كان لها معنى على الاطلاق؟ وهل يؤدي مسار التاريخ الى نتيجة؟ أم إن هذه الأسئلة لا معنى لها؟”.
والانسان ببحثه من الساعدة فإنما يريد أن يثبت ارادته ووجود حتى يحقق كينونته. ولا يعوقه عن ذلك الا فقده للحرية، وبالتالي فأن الحرية هي ضالته التي يسعى دائما لإيجادها. فالحرية هي امله المنشود وبدونها لا يمكن تحقيق السعادة، وهي تتحقق متى ما شعر الانسان إنه يعيش في مطلق الحرية وفي قصرها المنيف. وكذلك أن راسل يؤمن ايمانا مطلقا بالعلم، ويهرب من الميتافيزيقا هروب الشاة من الاسد، فالعلم عند راسل هو الذي يأخذ بناصيتنا وعلينا كعقلاء أن نساير العلم، ونميل الى الكفة التي يميل اليها.
“غير أن جميع ميادين المعرفة تحف بها منطقة محيطة من المجهول. وحين يصل المرء الى مناطق الحدود ويتجاوزها، فإنه يغادر أرض العلم ويدخل ميدان التفكير التأملي. هذا النشاط التأملي نوع من الاستكشاف أو الاطلاع، وهو يشكل واحدة من مقومات الفلسفة؟”.
فراسل يريد القول إن الفلاسفة الذين يعتقدون بوحدة الوجود، امثال جاكوب بوهمه واسبينوزا، واضرابهما، من الذين جعلوا التأمل اداة معرفية للوصول الى الحقيقة غير الظاهرة، لا مطلق الحقيقة. فهؤلاء الفلاسفة شقوا طريقا آخر غير الطريق الذي سار على جادته كثير من الفلاسفة، كالعقليين والتجريبيين والماديين. بالرغم من أن راسل موغل في لاأدريته لكنه يشير الى أن ثمة فلاسفة أصروا على التأمل وعلى التفكر، وهو هنا ليس بطور نقدهم أو انتقادهم.
هذا، ومن اللافت للنظر، إن راسل عاش أطول عمرا، إذ لم يعش فيلسوف كما عاش هذا الرجل، فقد عاش 98 عاما، يعني عاش قرنا من الزمن، وكان قد شاهد العديد من الاحداث السياسية، والبيئية والعمرانية والفلكية، بل والكثير من الاضطرابات التي عمت العالم خلال قرن من الزمن. ومن المعلوم أنه أرخ تقريبا وكتب عن كثير من هذه الاحداث وسلط عليها الضوء من خلال المحاضرات التي القاها هنا وكناك في اماكن متعددة.
وأما الكتب التي الفها فهي بحدود المئة كتاب تقريبا، أي إنه في كل سنة يصدر أكثر من مؤلف، وهو كان غزير النتاج واكثر فيلسوف ترك للأجيال هذا الكم الهائل من الارث، ومن المادة الفكرية الدسمة، وفي مختلف القضايا تقريبا، إذ لم يختصر نتاجه عن الفلسفة والرياضيات.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب