وأنا استمع لبرنامج المصري عمرو أديب والذي كان كملايين اخرين من العرب يلقي باللوم على الخيانة في نجاح اسرائيل باغتيال اغلب قادة حزب الله اللبناني، بدأت استغرق بالتفكير واغوص بالتاريخ لاجد تعريفا للخيانة يتقاطعمع تعريف الوطنية. اي كيف يمكننا التمييز بين الخائن وبين الوطني؟
الخيانة كلمة صاحبت تبريرات العرب لكل الحروب التي خسروها مع أعدائهم سواء اكانت تلك التي ضد اسرائيل ( الكيان الصهيوني) أو الدول الامبريالية والاستعمارية وعلى راسهما الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا. لكن مع مرور اكثر من سبع عقود ،أي منذ أن تسلموا الحكم في دولهم، لم يتفق العرب على تعريف من هو الخائن ومن هو الوطني. وهذه لعمري مشكلة ثقافية خطيرة جدا. كيف؟ في غياب تعريفات واضحة عليها إجماع وطني تميز بينهما، يمكن ان يرى الناس الوطني خائن والخائن وطني وينتهي الوطني بالسجن او الى المقصلة ويبقى الخائن متسيدا متنعما بخيرات الشعب متغنيا بخيانته التي البسها ثوبا وطنيا زائفا.
في قصيدة “وطن خائن،“ يقول الشاعر العراقي أحمد مطر في ذم الوطن الذي تحكمه طغمة ديكتاتورية:
أيها المواطن ، خنه وخنه ثم خنه ثم خنه ، بوركت خيانة الجراح للبراثن ، يا أيها المواطن ، إن لم تخنه فأنت حقا خائن!
عندما تحتكر الوطنية مجموعة متنعمة بهبات وامتيازات السلطة تصبح غالبية الشعب في نظرها خونة إن هي خالفت سياسات تلك المجموعة التدميرية.
يقول علي حسن المجيد المعروف ايضا بعلي كيمياوي ( ابن عم صدام حسين ووزير دفاعه) اذا لم يبق بالعراق سوى 5 ملايين مواطن “وطني“ فهذا يكفي، وكان تعداد سكان العراق في حينها يقدر بثلاثين مليون. ويعني بهذا انهم اذا توجب عليهم التخلص من الخونة ( 25 مليون) فسوف لن يترددوا في الاقدام على ذلك.
لكثر ماتتكرر كلمة الخونة في التاريخ العربي المعاصر، صار الفرد العربي يشك ان ثمة علة في الشخصية العربية تجعل منها ميالة للخيانة ضد شعوبهاوأوطانها. لكن لم يشكك ذلك الفرد نفسه في وطنية السلطة الحاكمة. من يدري؟ لعل ازلام السلطة الحاكمة هم الخونة وبقية الشعب وطنيون؟ هل سال أحدهم نفسه هذا السؤال؟
اذا كانت السلطة في دولة عربية معينة تمثل الاقلية ثم تقذف شعبها في اتون حرب لاتريدها الاكثرية من ذلك الشعب فلابد ان السلطة هي الخائنة وليس العكس.
دعني اسوق لك أمثلة من التاريخ القريب. عندما اعلن صدام حسين الحرب ضد ايران عام 1980 والغى اتفاقية الجزائر التي وقعها بنفسه مع شاه ايران عام 1975، اعتبر كل من يتخلف عن الالتحاق بالحرب من العراقيين جبانا وخائنا رغم ان غالبية العراقيين كانوا ضد اعلان الحرب على ايران لان غالبية الشعب العراقي ( شيعة وكورد) فغالبية الشيعة كانوا يرون ايران دولة اسلامية تربطهم معها علاقات اجتماعية ودينية ولايفترض بهم أن يحاربوها. أما الكورد فكانوا منذ أن تم ضمهم الى الى العراق الحديث قسرا بعد عامين من تأسيسه ( 1923) يكافحون من أجل استقلالهم وأمضوا عقودا من الزمن يقاتلون في الجبال ( كانت السلطة تلقبهم بالعصاة) من اجل الاستقلال ومع ذلك كانوا يساقون الى حروب قومية عربية. سيق بالنهاية غالبية الشعب العراقي بالقوة الى حرب كانوا يرفضون الانخراط بها. لكن نظام صدام حسين الذي كان لايمثل حتى 10 بالمئة من الشعب العراقي دمغ المعارضين لسياساته التدميرية بالخونة أوالمتآمرين او الطابور الخامس او الجواسيس … الخ.
لذلك صارت المواجهة الداخلية في العراق أثناء الحرب اكثر صعوبة على نظام صدام من مواجهة ايران. لادامة الحرب على الحدود الشرقية، كانت هناك جبهة داخلية اشد ضرواة وهي صراع اجهزة السلطة مع الفارين من الخدمة أوالمتخلفين عنها والرافضين للانخراط في تلك الحرب اللعينة.
في التاريخ العربي المعاصر، يبالغ المؤرخون العرب في دور الخونة في حسم المعارك ضد اسرائيل ( 1948-1967-1973) لكنهم لايتعبون انفسهم في البحث عن اسباب الخيانة. يعني اذا كان يعتقد امثال علي حسن المجيد ان ثمة 25 مليون خائن بين شعب تعداده 30 مليون نسمة، الا يستوجب هذا اعادة النظر في تعريف الخيانة والوطنية؟ هل خطر ببال أحد ان الاقلية الداعية للحرب يمكن ان تمثل الخونة والاغلبية الرافضة يمكن أن تمثل الوطنية؟
تواطأت أو تحالفت الاغلبية الشيعية والكوردية وبعض السنة في العراق مع الامريكان لاسقاط نظام صدام حسين العراقي العربي المستبد، فهل هو وطني وهم خونة ان العكس صحيح؟
تضع دساتير الدول الديمقراطية شروطا شبه تعجيزية دقيقة ومفصلة على الحكومات ان هي ارادت اعلان الحرب على دولة أخرى. كأن تفرض موافقة ثلثي عدد اعضاء البرلمان ورئيس الدولة ومجلس الوزراء … الخ. وحتى لو تم للحكومة ذلك فلا تخاطر باعلان الحرب على مسؤوليتها بل تكلف جهات حكومية أو اهلية لاقامة استبيانات واستطلاعات لرأي الشعب، واذا كانت نسبة المؤيدين للحرب ضئيلة، فستؤجل الحكومة قرار اعلان الحرب وتقوم بحملات اعلامية توعوية تبين للشعب ان الحكومة استنفدت كل خياراتها ولم يبق حل للمشكلة سوى الذهاب الى الحرب.
واثناء تلك الحملة تستمر استطلاعات الرأي. واذا بدأ الراي العام يتفهم ضرورة اعلان الحرب وتبدأ نسبة المؤيدين لها بالارتفاع التدريجي تستمر الحملات الاعلامية التوعوية الى ان تؤيد خيار الحرب نسبة معقولة ( 60 بالمئة أو أكثر) حينها وحينها فقط تستطيع الحكومة الرشيدة اعلان الحرب. لكن اذا لم تنتجالحملات التوعوية زيادة في نسبة المؤيدين للحرب، تتخلى الحكومة عن ذلك الخيار وتخوض في خيارات أخرى.
وأخيرا هل نحن قادرون –والشرق الاوسط هذه الأيام يحترق على رؤوسنا– ان نميز بين الخائن والوطني؟ ام ان التاريخ سيعيد نفسه وعندما يستقر غبار المعركة على ركام مدننا نحمل “الخونة والجواسيس” مسؤولية هزيمتنا؟