18 ديسمبر، 2024 7:47 م

من هو الاسكافي الاعجوبة الذي اصبح من عظماء الانسانية

من هو الاسكافي الاعجوبة الذي اصبح من عظماء الانسانية

الفقر احياناً يكون مصدر عوز للعلم وللثقافة معاً، وربما للتخلف ايضاً، وهذه قاعدة قد تكون عامة. لكن هناك من يكسر هذه القاعدة، يكسرها بمعول الارادة والتحدي والصبر، فيشق طريقه نحو آفاق معرفية، عجز سواه عن الوصل اليها، ممن هم درسوا وتعلموا ودخلوا الجامعات من اوسع ابوابها، وهم كثر، لكنهم لم يتركوا لنا أي شيء يُذكر، وهذا لا اريد أن اعممه، قطعا: كلا، فهناك من ترك للأجيال ارثا كبيرا: في العلم والمعرفة والآداب والقضايا الانسانية الاخرى، ما لا نستهان به، وهؤلاء من علمونا ودرسنا على ايديهم.
الذين كسروا تلك القاعدة (قاعدة الفقر) التي اسميناها بهذا الاسم، هم قليل ويعدون على اصابع الكف الواحدة. فهم رغم الظروف القاسية التي مرت بهم والتي عاشوها بقسوة رغما عنهم، وتلك اسبابها الفقر والعوز، فالفقر وصاحبه العوز يشلان حركة الانسان الفكرية قبل الحركة الجسدية ويقضيان عليهما، وقد لا يدرك حجم هذه المعاناة الا الذي اكتوى بنارهما واحترق بلهيبها، فهو يدرك الامر ويقيس مدى تأثيره. فمن الذين كسروا تلك القاعدة هو جاكوب بوهمه الفيلسوف والمتصوف الخيميائي.
ولد بوهمه سنة 1575 في قرية قرب غزلتتز الألمانية وهو من أبوين فقيرين لم يستطيعا تثقيفه ولم تُتاح له فرصة أن يعرف الجامعة. ولما اصبح يافعا عمل اسكافيا في محلا صغيرا يعود لأحد التجار، لبيع وتصنيع الاحذية. وكان وهو منهمكا في عمله غير منقطعا عن التأمل والتفكير، وكان كل من ينظر اليه يعده مجنونا او مصابا بلوثة.
اسطورتان أو معجزتان
مرت في حياة بوهمه حادثتين غريبتين اعتبرهما كولن ولسن: اسطورتين. تلكما الحادثتين دلتا على نبوغه اولا، وعلى قوة مخيلته ثانيا.
1-قضية الكهف
إن بوهمه كان من الطراز الحالم في صباه وكان يغيب عن الوعي ويغفل حين كان يرعى الماشية؛ فذات يوم تسلق تلا يُدعى لاندسكرون ووجد فيه كهفاً يتألف سقف مدخله من أربعة صخور وعثر- خلف الأعشاب التي كانت تملأ المدخل- على وعاء كبير ملئ بالنقود فأنطلق، مذعوراً خارج الكهف وأخبر الصبية الآخرون بذلك وعاد معهم إلى قمة التل، ولكن كان قد اختفى واختفت معه النقود، ويعتبر براكنبرغ- الذي ينقل القصة- هذه الحادثة بشيراً بدخول بوهمه إلى كنز الحكمة المقدسة، على الرغم من اتهامه من قبل البعض بأنه شديد الخيال في طفولته بصورة غير عادية وإن ذهنه ملئ بالخيالات عن العصابات والكنوز ولعله قد أخترع قصة الكهف وصدقها بعدما أعادها على مسامع الأولاد. (كولن ولسن، سقوط الحضارة ص 195).
2- مع رجل غريب
لما كان بوهمه نحيلاً لا يصلح للعمل في الحقول، ولذلك فقد دربه والده على صناعة الأحذية، فقد عمل في محل للأحذية لفترة من حياته، وذات يوم في ليلة كان لوحده في المتجر ودخل عليه رجل غريب الهيئة غير معروف في بلدته، أخذ يسأله عن أجود الأحذية لشراء زوج من الأحذية، ففكر بوهمه أن لا يبيعه، فقرر رفع سعر الحذاء بشكل لا معقول وهو يعلم في قرارة نفسه بأنه لا يحق له ذلك في غياب سيده، ولكن الرجل المجهول لم يكن ليوقفه هذا السعر فاشترى الحذاء، بالقيمة التي طلبها بوهمه. وعند خروجه توقف عند باب المتجر ونظر بنظرة حادة إلى بوهمه، وقال بصوت ومهيب: بوهمه، تعال إلى الخارج، فصُعق بوهمه لمعرفه الغريب اسمه ولحق به إلى الخارج. شعر بوهمه بنظرات الغريب الحادة تخترقه، اقترب منه وحدق مباشرة بمحياه وقال الغريب له: جاكوب أنت صغير الآن.. ولكن سوف يأتي اليوم الذي ستصبح فيه عظيماً حتى تدهش العالم، واردف على الفور: كن تقياً وخاف الله وعليك بالمواظبة على قراءة الكتاب المقدس. (المصدر ذاته)
صراع مع رجال الكنيسة
ومذ لقاء جاكوب بذلك الرجل الغريب تبدل مزاج جاكوب وتغيرت نفسيته، حيث اصبح مزاجه حادا، وليس له رغبة بمواصلة العمل بهذا المتجر الصغير. ولما لاحظ صاحب المتجر ذلك من جاكوب طلب منه ترك المتجر ومغادرة المكان.
طفق جاكوب يجوب المدن ويلتقي ببعض المثقفين للتزود بالمعرفة، والاحتكاك مع اهل المعرفة عن كثب، فضلا عن تأمله والمواظبة على قراءة الكتاب المقدس، حتى اصبح لديه مزيد من المعرفة.
حتى أخيرًا قرر الزواج، فتزوج من فتاة طيبة، شعر أنه بحاجة ماسة اليها، وكان سنه آنذاك خمسة وعشرين عاماً، فولدت له اربعة اولاد.
دخل يومًا الكنيسة، بعد أن اصبح معروفاً في الاوساط الثقافية والمحافل المعرفية، سيما وأنه قد اصدر كتابه اول (الفجر). انتبه القسيس لحضوره فراح يكيل له الكلام البذيء متهما اياه بالهرطقة والتجاوز الدين؛ معتبرا كتابه هذا “مملوء بدهان الاحذية القذرة” فجاء اعضا مجلس المدينة فقاموا بسجنه يوما واحدا، ثم افرجه عنه شريطة أن لا يعود الى الكتابة. الا أنه واصل التأليف والكتابة، وسط تشجيع من اصدقاءه وقراءه والمتعاطفين معه.
محاولة الايقاع به
اصدر أحد اصدقاءه اعماله كاملة في مجموعة كبيرة، واخذت الناس تتلقفها، وتنهل منها كلٌ بحسب رغبته، رغم ما فيها من بعض ما قيل عنها أنها طلاسم وكلام مبهم، وفيهم من اعتبر جاكوب كان يتقصد في ذلك، وآخر حسب أن قصر معرفة الناس هو ما يحول بينهم وبين ما يكتبه هذا المتصوف العارف. فوقعت نسخة من كتبه بيد القسيس الذي كان له بالمرصاد فهو يتحين له لاصطياده والنيل منه، كون رجال الدين لا يروق لهم رجالات الفكر الحر من الفلاسفة والمتصوفة وارباب الاختراعات، وهذا هو ديدنهم، اذ يعتبرونهم مهرطقين مخالفين تعاليم الانجيل.
بعث له اعضاء مجلس المدينة يستجوبوه ويستفسروا ما في كتاباته، فجاؤوا بأمهر ما لديهم من اهل الخبرة والمعرفة، لينظروا هل أن كتابات جاكوب فيها شيء من الهرطقة. وعندما راح يشرح ويفسر لهم ما قاله في كتابته، ذهلوا حيث رأوا أن افكار بوهمه فوق مستوى فهمهم ومعرفتهم الثقافية، وأنهم تنقصهم تلك المعرفة، والاتزان الفكري، فقرروا الافراج عنه وعدم التعرض له مستقبلا.
لكن الكهنة لم يرق لهم الامر، فراحوا يتبعون خطواته، وينظرون له بالشك والريبة ويقتنصون اللحظة للإيقاع به. وهذا هو ديدنهم فتاريخهم حافل بالكراهية لأصحاب الفكر الحر منذ وجدوا على وجه البسيطة؛ وقد وصفهم الفيلسوف الالماني نيتشة بقول:” إنهم لأعداء خطرون، وما من حقد يوازي ما في اتضاعهم من ضغينة، وقد يتعرض من يهاجم إلى تلطيخ نفسه، ولكن بيني وبينهم صلة الدم وأنا أريد أن يبقى دمي مشرفًا حتى في دمائهم.. إنني أشفق على هؤلاء الكهنة، وأنا لا أزال أنفر منهم، ولكنني تعودت الإشفاق مرغمًا نفوري منذ صحبت بني الإنسان، ومع ذلك فأنا أتألم مع الكهنة؛ لأنهم في نظري سجناء يحملون وسم المنبوذين في العالم، وما كبَّلهم بالأصفاد إلا من دعوه مخلصًا لهم، وما أصفادهم إلا الوصايا الكاذبة والكلمات الوهمية، فليت لهؤلاء مَن يُخلِّصهم من مخلِّصهم”. (زرادشت ص 109 ترجمة فليكس فارس)
عالم نفس
تحليل بوهمه الخيميائية والنفسية تدل على أنه كان عالم نفس من طراز خاص، الا أن علم النفس حينذاك لم يكن معروفا في عصره، ومن هذا المنطلق فأن بوهمه حينما يصف مكنونات الانسان حينا، فهم لا يفهمون المغزى ابدا، وما المقصود فيما يقول، لذلك يعدون كلامه مبهما، يقول بوهمه في وصفه الانسان:” أن “الانسان مؤلف من قوى الله. من ارواح الله السبع. تماما كالملائكة، لكنه يجد الآن أنه محلل. لذلك فأن التحرك المقدس لا يكشف عن نفسه فيه دائما ولا يعمل عمله. وبالرغم من أنه يتبع فيه، بل أنه قد يشع فيه؛ الا أن الطبيعة المتحللة لا تستطيع أن تفهمه”. (سقوط الحضارة ص211)
يقول ايضا:” لو لم يتم تنظيف أبواب الإدراك فإن كل شيء سيجعل الإنسان كما هو، محدوداً في قدراته ”
ونختم كلامنا بما قال كولن ويلسون: “أن بوهمه يعتبر رائداً في علم النفس، وكان يدرك أشياء كثيرة تحدث في نفسه ويدرك كيف ينتقل من الحالة الذهنية العادية إلى ذهنية مصاحبة للرؤى دون أي مجهود، بالرغم من أنه لم يكن هنالك علم نفس في زمانه، ولهذا أخترع لغته الخاصة ليصف ما كان هنالك، يقول بوهمه”. وربما قد استفيد فرويد من نظريات جاكوب فيما وصل اليه من التحليل النفسي.