يشعر الكثير من شيعة العراق بالارتياح عندما تَذكرُ الإحصاءات الرسمية المعتمدة في الأمم المتحدة بأنهم يُمثلون غالبية سكان العراق ، وقد ذكر أحد هذه التقارير أنَّ نسبة الشيعة في العراق 60% معظمهم من العرب ويتوزع البقية بين التركمان والأكراد والشبك ، وفي إحصائية بسيطة نجدُ أنَّ ما تبقى من العراقيين يساوي 40% ، 10% منهم من المسيحيين والصابئة والأيزيديين وغيرهم من الأقليات ويبقى 30% للسنّة في العراق وهو أمر غير منطقي وغير صحيح ويبدو أن الذي قدَّم وأعدَّ ووزع هذه الإحصائية مِنَ المستفيدين من تفاقم الصراع بين السلطة الشيعية الحاكمة والتكتلات والأحزاب السنيّة الفاشلة .. فالسنّة في العراق يتساوون في أعداد الشيعة إن لم يكونوا أكثر إذا ما تمَّ القياس على المذهب .. فغالبية الأكراد هم من السنّة وكذلك يتوزع السنّة بنسب شبه كاملة على عدد من المحافظات العراقية كالرُمادي وتكريت والموصل وكركوك وبنسب كبيرة في بغداد وديالى والبصرة ونسب محددة في بقية محافظات العراق ، بمعنى آخر وأدق لا توجد في العراق طائفة أو عرق أو مذهب يفوق في عدده كأغلبية على الآخر .. فالشيعة يتقارب عددهم مع السنّة كمذهب أما كقومية فالأمر معروف للجميع في إحتلال العرب للمرتبة الأولى ثم الأكراد يليهم التركمان وبقية القوميات ، ومن المحير أنَّ مجلس الحكم الذي إختارته سلطة الإحتلال الأمريكي في عام 2003 لم يكن صحيحاً أو عادلاً بعد إختيار خمسة من العرب السنّة في المجلس أحدهم من أصل كردي وآخر جنسيته سعودية والثلاثة الآخرون من جنسيات أجنبية أخرى ! ولكي لا نذهب بعيداً عن موضوعنا علينا أن نذكّر بأمورٍ عدة ..
منها أنَّ العراقيين لم يحكموا بلادهم منذ تحريرها من الفرس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وحتى عام 1958 فجميع الّذين حكموا العراق كانوا من شبه الجزيرة واليمن والفرس والأتراك والمغول .. بعد تحرير العراق في زمن عمر وما تلاه من صراعٍ مرير بين الحكام والولاة في عصر عثمان وعلي والأمويين والعباسيين والعثمانيين حتى عام 1921 وإعلان فيصل الأول ملكاً على العراق وهو ليس من العراق أصلاً ، حتى عام 1958 ونجاح الإنقلاب العسكري لعدد من ضباط الجيش العراقي المتأثرين بالمد القومي القادم من مصر بعد نجاح ثورة يوليو 1952 وتولي عبد الناصر السلطة في عام 1954 إثر إزاحة محمد نجيب ووضعه تحت الإقامة الجبرية وبدء مرحلة جديدة من العلاقات بين الدول العربية لإشاعة العقيدة القومية .. تم إستلام السلطة لأول مرة منذ ثلاثة عشر قرناً وإستمرار العراقيين بتوليهم السلطة حتى يومنا هذا !
عبد الكريم قاسم وهو أول عراقي يحكم العراق منذ تحريره من الفرس تعمَّدَ إخفاء هويته المذهبية أما الإنقلابات والثورات التي حدثت بعده فكانت جميعها سنيّة سواء إستمرت لمدة قصيرة كإنقلاب 8 شباط أو طويلة كثورة 1968 وهي ثورة عقائدية بين قائدين سنييّن فقط ( البكر وعارف ) فأحمد حسن البكر ضابط سنّي من تكريت يسكن في بغداد بحكم عمله إنقلب مع مجموعة من القوميين والبعثيين على عبد الرحمن محمد عارف وهو ضابط سنّي من الرُمادي وُلد في الكرخ في بغداد وسكنَ فيها بحكم عمله .. عارف فشلَ في الإستمرار في توليه السلطة بعد مقتل أخيه عبد السلام وإحتراق الطائرة التي كان تُقلّهُ في عام 1966 والبكر فشل أيضاً في التمسك بالسلطة رُغم ما قدمه من إنجازات مهمة كالحكم الذاتي للأكراد عام 1970 وتأميم النفط عام 1972 وإستحداث خطط التنمية الخمسية لإعمار العراق وغيرها من الإنجازات غير الكافية لصموده أمام إنقلاب عام 1979 والإطاحة به بهدوء وإستلام السلطة من الفصيل المعارض له ولمؤيديه والإلتفات إلى الفصيل اليساري المعارض الآخر داخل صفوف السلطة وما جرى بعده من إعدامات وإعتقالات حاسمة وسريعة جداً أفرغت الساحة السياسية العراقية من أي عقل أو عقيدة أو فلسفة أو رأي معارض ، وإلتفت النظام الجديد إلى إزاحة ومقاتلة أي إتجاه منافس داخلي أو خارجي مهما كان حجمه ، أما ما جرى منذ عام 1980 وحتى عام 2003 فقد عرضه وقدمه آلاف المحللين والسياسيين والمتابعين للشأن العراقي لكنَّ ما فاتهم أو ما أغفله بعضهم بتعمد هو النظر إلى هذا النظام كرمز للسنّة وهو خطأ غير مبرر .. فعقيدة البعث أدخلها إلى العراق شيعي من كربلاء بعد إنهاء دراسته في بيروت ( سعدون حمادي ) والكوادر الحزبية والملاكات العاملة كان معظمها وأشدها تمسكاً هم من الجنوب الّذين أصروا على ضرورة التصدي للمد الشيعي ومؤيديه القادم كالبرق من طهران ! وهكذا كان إندلاع الحرب العراقية الإيرانية في جيشٍ كان تعداد الشيعة فيه أكثر من 80% تصدوا وقدموا تضحياتٍ كبيرة للحد من تقدم الإيرانيين ونشرهم لولاية الفقيه في العراق .. أما السنّة ومع أنَّ عدداً كبيراً منهم كان مشاركاً مع القوات العراقية لكنهم وبعد إستمرار الحرب وطول مدتها توزعوا كقيادات وجنود في مواقع الإستخبارات والحمايات وبدأت أعدادهم تقلُّ في الجبهات الأمامية .. التفسير الظاهر أنَّ الحرب لم تكن بين السنّة والشيعة بل بين العراقيين والإيرانيين وهو ما حدا بالحكومة العراقية لإصدار قوانين صارمة أقلها السجن المؤبد والإعدام لمن يثبت تعاونه مع الإيرانيين ، وكان تأثير هذه القوانين كبيراً على الأحزاب المعارضة في العراق ورأس حربتها في قتال النظام آنذاك وهو حزب الدعوة .. وحزب الدعوة أعلنَ تأييده بوضوح للنظام الإيراني قبل بدء الحرب وفي أثنائها ما منح الحكومة العراقية مبرراً كبيراً لمطاردة وإعتقال وقتل آلاف المنتمين إلى حزب الدعوة وإعتبرت العمل معه أو التعاون مع أيٍ من منتسبيه أو إخفاء أي معلومة عنه خيانةً للوطن يُعاقب عليها بالإعدام ..أما بقية الأحزاب المعارضة منذ عام 1979 أي بعد إسقاط البكر وتولي صدام حسين للسلطة فلم يكن ذو تأثيرٍ يُذكر أو أهمية على مجريات الساحة السياسية العراقية بإسثناء المعارضة الكردية وهي متوارثة منذ عقود وتعاونها مع السلطات الإيرانية وهو ما سيتم ذكره في مقالات مفصلة لاحقاً ..
بعد عام 1988 وغلق ملف الحرب العراقية الإيرانية خرجَ العراق منهكاً في حقيقته قوياً في ظاهره فقط ، مثقلاً بديون ومحملاً بأعباء حربٍ ذهب ضحيتها بين شهيدٍ وجريحٍ وأسيرٍ ومفقود أكثر من ثلاثة ملايين عراقي ومدن مهدمة بالكامل وعلاقات غير مستقرة مع دول العالم وبالتحديد دول الجوار وإقتصاد فقير .. أما نتيجة هذه الحرب فهي توظيف جميع الأحزاب والكتل والعقائد والسياسات المعارضة للنظام وبدء مرحلة جديدة وشاملة وهي التصدي للإعتقاد الخاطئ المتوارث لضرورة إزاحة الحكم السني وبناء معارضة كان ظاهرها يُشير إلى تآلف وجهات النظر لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماماً ( بإستثناء الأكراد) إذ بدأت المعارضة السياسية لإسقاط الدولة العراقية وحكم البعث مذهبياً بإمتياز ويمثل الشيعة المعارضين مع الأخذ بنظر الإعتبار بعض المعارضين السنّة كإستثناء مضحك وغير مهم .. يقول الأستاذ الدكتور علي الوردي عن تأثر العراق بإيران
(( بعد أن تحولت إيران إلى التشيع، أخذت تؤثر في المجتمع العراقي تأثيراً غير قليل، فقد بدأ التقارب بين الإيرانيين وشيعة العراق ينمو بمرور الأيام، وصارت قوافل الإيرانيين تتوارد تباعاً إلى العراق من أجل زيارة العتبات المقدسة(عند الشيعة) أو طلب العلم أو دفن الموتى وغير ذلك، وقد نشأ في العراق جراء ذلك وضع اجتماعي فريد في بابه هو أن الشيعة الذي يمثلون أكثرية السكان في العراق هم من العرب بينما أكثر علماءهم من الإيرانيين)) (1) هذا التحليل المنطقي القديم ينطبق تماماً على ما جرى للشيعة العراقيين بعد الحرب فقد بدأت إيران تُخطط لإسقاط النظام العراقي بكل الوسائل وأهمها عشرات الآلاف من المعارضين في ألوية وفرق عسكرية كان لهم قصب السبق في إسقاط الدولة السنيّة على حسب ما إعتقدوا وليست دولة علمانية لأنَّ قائدها كان سنيّاً .. إيران والعلماء الإيرانيون هم من أسقط الحكم السنّي وليست أمريكا أو بضع معارضين يتجولون بين لندن ومصيف صلاح الدين ممن أوهم الحكومة الأمريكية بضرورة تحرير العراق من التسلط الديكتاتوري منذ أكثر من ثلاثة عقود وبدء صفحة ديمقراطية جديدة تعتمد على دولة المؤسسات والدستور العادل الذي يضمن للجميع حقوقهم بلا فوارق طبقية أو دينية أو أثنية أو مذهبية ، وتنفسَ أغلب العراقيين الشيعة الصعداء حين إنتهى حكم السنّة وتسلط صدام حسين ومطاردته وقتله لهم وللمعارضين الشيعة بينما إنتشر الرعب والتوقع غير المضمون من مستقبل مستقر بين أغلب صفوف العراقيين السنّة ..
ومنذ عام 2003 وحتى عام 2011 وإنسحاب القوات الأمريكية من العراق نجح السياسيون الشيعة نجاحاً كبيراً في إستبدال وإلغاء جميع القرارات والقوانين والتعليمات والتعديلات التي ضمنت وستضمن لهم حكماً للأغلبية لهم بعد إندحار الحكم السني بلا رجعة .. يقول أحد السياسيين الشيعة من قياديي حزب الدعوة في لقاء مع قناة فضائية أنه وبعض المعارضين في حزبه ممن إختار سوريا ولبنان منفى له .. قاتلوا نظام صدام حسين بكل الوسائل ، الإعلامية والعسكرية والسياسية حتى تمكنوا من إسقاطه ! إنتبهتُ إلى جملة ( بعض المعارضين ) لهذا السياسي ولنقل انهم عشرات او مئات تمكنوا من إسقاط نظام صدام حسين فكيفَ يمكن للنظام الشيعي العراقي الآن أن يتعامل مع أكثر من أربعة ملايين معارض سني يعيشون منفيين ومهجرين في كل بلاد الأرض .. كيفَ يُمكن لهذا النظام العادل أن يُعيد وشائج الإنتماء للمواطن السني العراقي ومعاناة ملايين المهجرين والنازحين السنّة المطاردين من القوات الحكومية أينما حلّوا .. أليس لهؤلاء إرادات وألسن حقٍ وصدق ومطاليب عادلة بإعتبارهم أبناء العراق .. هذه هي السلطة الشيعية بعد إنتصارها على الحكم السني .. ماذا قدمت وهل سنبقى نحنُ أبناء العراق شيعتنا وسنتنا وعربنا وأكرادنا وتركماننا وأدياننا ومذاهبنا ومعتقداتنا ننتظر الفائز في ساحة المبارزة بين السنة والشيعة في الوقت الذي يفترسنا فيه الفقر والنزوح والذل والفساد والخراب والفتنة والدمار .. عراقيون شيعة وعراقيون سنة لكننا ظُلمنا بحكمٍ حولنا إلى دولةٍ تعتاش على النفاق وسلطةٍ حولتنا إلى دويلات غير معلنة ..وللحديث صلة