23 ديسمبر، 2024 1:56 ص

من نقد النص إلى نقد العقل

من نقد النص إلى نقد العقل

التاريخ والفن مدخلان للتغييرمدخلات التغيير:التاريخ والفن  مدخلان  لتغييرات كبيرة في الفكر الأوربي المعاصر ومقدمة لرؤية حضارية ثقافية ومعرفية ، حفزت الفكر الإسلامي ، وجعلته يتساءل عن حقيقة ارتباط الفن بالتاريخ . وهل أقصى الإسلام الفن وادخله في ذيل اهتماماته ؟  , كان هذا احد الابواب التي دخلت منها الثقافة الغربية بعد الفراغ الهائل الذي وجدته في بنية الثقافة التقليدية. لعل هذا التساؤل مهم جدا وهو يحمل معه اجابة ما  ,فبعض الاسئلة تحمل اجاباتها او توحي بها،  كان العراق مثلا موئلا للتاريخ القديم : حضارة سومر وبابل واشور, وهي اولى حضارات العالم القديم و قد اهملت تماما في الفكر الاسلامي لانها تمثل ثقافة وثنية قبل ظهور الاسلام , لكن هذه المواضعة الفكرية البسيطة ابعدت المفهوم المعاصر للتاريخ ، اذ ان هذا المفهوم يقترب من فلسفة التاريخ ، وهذا يعني اقتراب  الفن من التاريخ، فالتاريخ ليس سجلا للاحداث والوقائع مرتبا وفق تسلسل زمني ، بل هو يفسر ويعلل سبب الحدث الواقع في زمن او مكان معينين ، ان الذي منح مفهوم التاريخ بعدا فكريا وفلسفيا هو الفن حيث تم ايجاد علاقة وطيدة  بين الاثنين . وهنا يحضر تاريخان  :التاريخ السياسي وتاريخ الفن ، وقد توحدا فيما بعد في اطار فلسفة التاريخ . ان الاكتشافات الحديثة لحضارة وادي الرافدين هي في الحقيقة دراسة لتاريخ الفن ، والملاحظ ان نقوش بابل وسومر تفسر طريقة عيش العراقيين القدماء وطريقة تفكيرهم ، وقد اعتنى الفكر المعاصر بذلك . وهو الذي اغرى الكثيرين من مورثي الحضارات القديمة في التساؤل ، لماذا اغفل الفن في اطار الحضارة الاسلامية ؟ ولماذا انشغلنا بالتاريخ السياسي اكثر من تاريخ الفن ؟ لقد اخذ الامر في العصور الحديثة ابعادا اوسع ، ولقد تزامن ظهور فلسفة التاريخ مع ظهور فلسفة الفن ، وظهرت مقولات حديثة تقول :ان التاريخ  يكتبه الفلاسفة والفلسفة  يكتبها  المؤرخون. إن النهضة الفكرية التي تزعمها الفلاسفة المثاليون والعقليون هي التي مهدت لنهضة فكرية و ادبية عارمة فيما بعد ، وقد شهدت ولادة مفهومين متجانسين احدهما يكاد يأخذ صفاته من الاخر فلسفة التاريخ وفلسفة الفن. لكن هذين المفهومين قد يجدان عوقا حقيقيا في الثقافة الاسلامية . و شكل هذا العوق المفترض مجالا حيويا لدخول الفكر الغربي الى الحياة الثقافية المحلية ، لقد شعر المسلمون انهم اكثر قربا من تاريخ الفنون .. فالكتابة في اول عهدها كانت فنا . فلو اتاح العقل العربي الإسلامي المجال للفن لكي يرتبط بالتاريخ , لما ركز اهتمامه في التاريخ السياسي الذي بدأت الأمة تعاني منه , ومن نصوصه التي تقرأ  قراءات متعددة في أوقات مختلفة . الغزو الثقافي الأوربي يدخل من المناطق الخالية او الفارغة ،  فيملأها بامتياز ، ولا يجد المثقف او المتعلم في البلاد الاسلامية حرجا من اخذها وتوظيفها ، وعلى هذا فان التدخل الثقافي الغربي  , ليس دائما غزوا قصديا , بل هو سد لفجوات  وجدت  في الثقافات المحلية السائدة بعد تغير هائل في المكتشفات الاثارية والتاريخية , ووسائل التقنية التي هزت كثيرا من القناعات والثوابت.
 
مقتربا الفن والتاريخ  :
 
        حين قال فلاسفة القرن السابع عشر , بضرورة النظر الى التاريخ من زاوية فهم جديد، فأن ذلك سرعان ما دفع بعض الدارسين الى تأمل جديد للفن والتاريخ، فالتاريخ ليس سجلا للاحداث والوقائع مرتبا وفق تسلسل زمني او بدونه، بل هو يفسر ويعلل سبب الحدث الواقع في زمن ومكان معينين.. وبهذا اكتسب التاريخ معنى اكثر دلالة من ذي قبل، غير ان الذي منح مفهوم التاريخ بعدا فكريا وفلسفيا هو الفن، حيث تم ايجاد نوع من العلاقة بين التاريخ والفن اول مرة في القرن السابع عشر، ولعلنا نجد في المظان التاريخية العربية القديمة نزعة التعليل والتفسير في اكثر من مصدر تاريخي وفي اكثر من منهج في كتابة التاريخ.. فاذا كان الطبري مثلا وهو من مؤرخي المسلمين، قد سلك طريقا تقليديا في رواية الحدث التاريخي، فأن ابن الاثير المؤرخ العربي المعروف قد فاق سلفه في ميزة مهمة وهي المنهج، فهو الذي ادخل ميزة التعليل والتفسير في كتابه الشهير (الكامل في التاريخ).
       غير ان الامر يأخذ في العصور الحديثة ابعادا اوسع , فقد تزامن ظهور فلسفة التاريخ مع ظهور فلسفة الفن، حيث النهضة الفكرية التي تزعهما الفلاسفة المثاليون والعقليون , والتي مهدت لنهضة فكرية وادبية عارمة فيما بعد, وشهدت ولادة مفهومين متجانسين، احدهما يكاد يأخذ صفاته من الثاني، فلسفة الفن وفلسفة التاريخ. ولم يجد المعنيون فيما بعد عائقا يحول دون إطلاق هذه المصطلحات في الدراسات الفنية والتاريخية.. فهي قد اكتسبت منذ ذلك الحين وجودا حقيقيا وفعالا، نلحظ هذا في المراحل التالية عند فيلسوف ايطاليا الشهير بندتو كروتشه، الذي عاش في القرن التاسع عشر , حين كتب مذكرة بعنوان (رد التاريخ الى مفهوم عام في الفن)، ونشر هذه المذكرة في خضم الثورة الثقافية التي تعم كل شئ في اوربا، فليس من الطبيعي على وجه الاطلاق , ان يتطور الفهم الفلسفي بوجود حركة فنية واسعة  ولا يصاحب ذلك فهم جديد للتاريخ، لقد دخلت الفلسفة التاريخ منذ ان اصبح الماضي حاضرا ومنذ ان اصبح الحاضر مستقبلا في النتيجة المنطقية التابعة.
          ان المكتشفات الاثرية في حقل الفن اغنت العلاقة بين الفن والتاريخ، فالى وقت قريب لم تكن الرموز الفنية قد ظهرت في وادي الرافيدين، وفي مصر القديمة ولم تظهر الصور العجيبة والرسوم التي تزين جدران المعابد، التي تتناسق مع بعضها لتكون رؤية جديدة للتاريخ.. لكنه تاريخ فني محض. وتأتي معرفة الحضارات او محاولات الانسان الاولى في الحضارة , دليل ثان على ما يمثله الفن للتاريخ، فالقدماء انشأوا هياكلهم الفنية العظيمة في ممالكهم المندثرة هنا وهناك، وحين توصلت ايدي المعاصرين الى هذه النفائس الفنية، حلوا إشكالا كبيرا في التاريخ، بل إن هذه المكتشفات من التماثيل والرسوم ذات الدلالة الفنية الرفيعة كانت هي التاريخ، من هنا توحد مفهوم التاريخ مع الفن بشكل أكثر وضوحا وتبسيطا. لكن نقاد العصر الحديث خاصة الذين توفروا على ثقافة انسانية واسعة , يضعون انجاز اليونان القديم في الصدارة عند الحديث عن الفن وعلاقته بالتاريخ، ولا شك ان السبب في ذلك هو التراكم الثقافي الهائل الذي كتبه الدارسون في مختلف العصور عن الثقافة اليونانية. هذا فضلا عما امتازت به هذه الحضارة من فكر ونظام مقارنة  بالثقافات التي سبقتها…عندما خصص “هيجل” ومن قبله “كانت” فصولا من حياته لدراسة الفن لم تكن امامه غير شواهد الحضارة اليونانية المعروفة عبر التاريخ ، وبذلك فقد اكتسبت هذه الشواهد في حضارة اليونان بعدا دراسيا، واشبعها كثير من المفكرين نقدا وتحليلا. وبما ان المعرفة هي تراكم وتواصل الاشواط , فأن فلاسفة القرون الماضية منذ عصر النهضة الاوربي قد تأثروا ايما تأثر بهذا الانجاز المتوفر في وقت لم تسعف الحضارة بعد الدارسين في اكتشاف رموز وادي الرافدين مثلا.. وفي عصور تالية عد التاريخ مادة الفن، والفن هنا نستعمله بالمعنى الاشمل : المسرح، الشعر، القصة، التشكيل.. وحين ظهر اول لون مسرحي في الوطن العربي كانت مادته التاريخ، وظل التاريخ يشكل العمود الفقري للشعر الحديث العربي والاجنبي، فالاسطورة في معناها العمومي تنتمي الى التاريخ، ولا شك  في ان دخول لفظ التاريخ على الادب والذي اسس فرعا من فروع الادب، تاريخ الادب، يوضح مدى العلاقة بين الاثنين وارتباطهما الوثيق , على ان فهم القدماء لتاريخ الادب يختلف عن فهم المعاصرين له، بفضل دخول مفهوم التاريخ ضمن الرؤية الحضارية المكونة للثقافة المعاصرة، فتاريخ الادب المعاصر ليس تتبعا زمنيا للاداب في عصور مختلفة، وليس هو وضع الاوصاف الى جانب بعض الادباء في التسلسل التاريخي، بل اصبح اضافة الى ذلك شيئا اخر. ان تاريخانية الادب تعني استحضار الفن والتاريخ في مفهوم موحد وبيان افادة كل منهما من الاخر. ان هذا الاستحضار يتطلب امتلاك روح متفوقة، فلا يجوز ان نأمل  القيام بأي عمل مميز بشأن الانسانية دون ذلك , فكل الناس يستطيعون أن يميزوا الحقيقة, إنما قليلون جدا هم الذين يتسنى لهم اكتشافها..
    إن المعمار الفني في الجملة الشعرية العربية ينتمي الى التاريخ بشكل مطلق مثل ما ينتمي الى الفن، فالجملة الشعرية العربية تمتلك صفات ظلت تميز هذه الجملة على مدى العصور، على الرغم من  حركات التجديد التي شهدها الادب العربي. وفي النثر ايضا كانت الجملة العربية واضحة في دلالاتها وتراكيبها المعنوية التاريخية، ويستطيع القارئ بيسر ان يفرق بين جملة مترجمة الى اللغة العربية و جملة عربية اصلا، لان معمار اللغة العربية على الرغم من التطور معمار تاريخي، على هذا النحو يلتقي الاثنان التاريخ والفن، هذان المدلولان المهمان اللذان يفضيان الى منهج يسهل تمييزه في الفكر. هناك عدد لا يحصى من الشواهد في تاريخ الادب العربي، ولنا في هذا المثال شاهد أكثر وضوحا فقد قال امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه                   وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
 
فقلت له لا تبك عينك إنما                             نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
 
هذان البيتان يكشفان عن قلق هائل في نفس الشاعر الذي يسقطه على صاحبه.. وهناك شبيه  به  في الترقب والتوجس عند أبي الطيب المتنبي فيقول:
 
كم سألنا ونحن أدرى بنجد                          أطويل طريقنا أم يطول
وكثير من السؤال اشتياق                           وكثير من رده تعليل
 
       محلل ومفسر التاريخ والفن، يستخلص من الجملة الشعرية صفات مشتركة تتعلق بمعمار اللغة (الفن) الذي يكشف عن الفكر واللغة تنتسب الى التاريخ من باب اولى، وعلى هذا لم يحصل انقطاع في التاريخ الفني العام للعرب بعد ظهور الاسلام فلطالما نهض الفن العربي بعده , حتى ان الشواهد الفنية الهائلة التي خلفها العرب، تكاد تضاهي ما فعله الاجداد في بابل وفي حواضر وادي الرافدين.. وقد حصل التغيير في الاشكال ولم تتاثر البنيات لان الغاء الفن يعني الغاء التاريخ، وهو امر مستحيل في الحياة الانسانية.
       وحسبي تأكيد  الخصائص الفنية التاريخية  التي يسرت لبعض فلاسفة التاريخ , أن يقولوا بامكانية انبعاث الحضارة العربية من جديد “ارنولد توينبي” لانهم توفروا على علامات اكثر دقة وسعة بعد المكتشفات المتأخرة في بلاد وادي الرافدين التي كانت غامضة من قبل. لقد ماثل “فيكو” الشعر مع المرحلة الابتدائية في تاريخ الانسان حين قال “الشعر هو أول شكل للتاريخ” الا انه قصر الشعر او فاعلية الشعر على تعليق فاعلية العقل. والعرض الذي قدمه “هربرت ريد” لنظرية فيكو في الشعر تؤكد المنحى الذي عرضناه في هذا المقام “علاقة الشعر بالتاريخ” ..
        يقول ريد : إن نظرية فيكو قائمة على الدراسة في علم الأساطير  ,خصوصا لدى هوم وذلك هو ما عنيته بالمنهج الجيني . وهو منهج يدرس الفن من خلال علاقته مع اصوله وتاريخه وانتشاره..
وباختصار المنهج التجريبي ذاته .. فان كل تقاليد الفن هي نتيجة مباشرة لمثل هذا المقترب من الفن. يقول لم يعد ينظر الى الفن كمثال عقلاني. ككفاح مضني باتجاه الكمال الفكري بل ينظر إلى الفن كمرحلة في التاريخ المثالي للبشرية. كأسلوب تعبير لما قبل المنطق . كشئ ضروري ومحتوم وعضوي كتعبير للبطولة الخصبة الخيال في حياة الفنان في كل عصر. وتعابير مثل لغة العصر البطولي، تعبير للبطولة الخصبة اسلوب تعبير لما قبل المنطق، هذه التعريفات للشعر تلتقي من زوايا متقاربة مع التاريخ في معناه التفسيري والتحليلي . وانطلاقا من هذا الفهم فان القرن السابع عشر اذا كان قد شهد ولادة فلسفة الفن وفلسفة التاريخ متزامنين , فأن البشرية في مراحلها الاولى قد شهدت  ولادة الفن مرتبطا بالتاريخ، إذ يصعب الفصل على وجه الاطلاق بين الاثنين رغم ما يبدو في الظاهر من أن احدهما ابعد من الآخر في الزمن.
        على هذا النحو  يتوحدان.. ويصير احدهما شاهدا  للاخر، ولولا الفن ما عرفنا شيئا عن حضارة وادي الرافدين والنيل، ولولاه لما عرفنا شيئا عن حضارة اليونان. فحل رموز اللغة في هذه الحضارات هو حل لرموز الفن..
     ان عصرنا الحالي، عصر الإحصاء والربط الدلالي بين الأشياء .. عصر البنيات غير المستقلة عن بعضها، هذا العصر يشهد تغييرا في مفهوم التاريخ وفي مفهوم الفن، وللمعنيين الان فرص أوسع لتعميق المعنى الدلالي للفن والتاريخ , في ضوء المكتشفات والبحوث عن حضارة وادي الرافدين , وفي ضوء ما يكتشف مستقبلا. وقد كان الوقت  كافيا كي ينظر العرب المسلمون , نظرة فلسفية دقيقة للانجاز الغربي المتحقق في حقل الفن , واضعين الى جانبه الانجاز الفكري والفلسفي الهائل الذي قدمه فلاسفة الفن والتاريخ عبر القرون المتأخرة في الفكر الإنساني.. وهو الذي يشكل دافعا متجددا لاستخلاص حقائق اكثر غنى عن واقعنا الثقافي القديم.. تفيد فائدة عظمى في صياغة نهضة ثقافية انطلاقا من حقيقة بسيطة تقول ان التاريخ معاصرنا.
 
الاسلام والفن:
     كيف يمكن تصور العلاقة بين الإسلام والفن ، وهل انشغل المسلمون الأوائل ومن ثم المعاصرون به .. وهل مثل لهم بعدا انسانيا او اخلاقيا عبر العصور . من الصعب الاجابة عن سؤال اساسي ومهم مثل هذا السؤال ، ولكن يمكن ايجاد مقترب ما او ملمح من موقف الاسلام من الفن . وهذا ما نجده عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد ، وبعضهم اشتغل في الفقه والقضاء ، ولم يمنعه ذلك من محاولة فهم الفن ، اذ لايمكن تصور وجود حياة معقولة او متوازنة بلا فنون .. ولاسيما فن الموسيقى الذي يجمع الفكر الانساني على انه غذاء الروح ، واذ صمت الفكر الاسلامي خارج الفلاسفة ، اقصد مجتمع الفقهاء والاصوليين  ,عن الدخول في مناقشة مستفيضة عن علاقة الفن بالحياة وعلاقة الفن بالدين ، فانهم في الوقت نفسه لم يعارضوا ماقام به فلاسفة الاسلام ، مما يعني ان قضية الفن في الاسلام لم تكن محسومة .. ولعلنا نقف عند ما انجزه السلف في مجال الموسيقى فقد كان “ابن سينا في موسوعة الشفاء والنجاة سباقا في وصف تعدد الاصوات البوليفونية قبل ان يعرفه الغرب لمئات السنين ويعتبر ابن سينا ايضا رائدا من رواد التدوين الجدولي ، حيث درس العلاقة بين يد العازف على عنق الالة الموسيقية وطبيعة الاصوات التي تصدرها “.
     الملاحظ ان الفلاسفة المسلمين وجهوا عنايتهم بشكل خاص إلى الموسيقى دون غيرها من الفنون ، ولعلهم أدركوا أنها تتقدم الفنون , وأنها تحوي مزايا لاغنى عنها للبشرية , والمعروف أن الفلسفة الاسلامية في منحاها العام , فلسفة اخلاقية ، ومن هنا فان ارتباط الموسيقى بفلسفة الاخلاق , اوجد فضاءا جديدا ماكان ليوجد في مثل هذا الاتساع لدى الامم الاخرى ، فالامة اليونانية مثلا كان المسرح عنوانا رئيسيا لفنونها وهو يضاهي الموسيقى في مزاياه الاخلاقية ، وان فكرة التطهير الارسطية انبثقت من المسرح .. ومن دلائل احترام العقل الاسلامي للموسيقى ماقدمه الكندي “مثلت ابحاث الكندي في طبيعة الاصوات فتحا في علم الموسيقى باكتشافه السلم المعدل وتحديده لنطاق الذبذبات للاصوات الموسيقية وهو السلم الذي عرفه الغرب بعد ذلك بقرون عدة .. وتعد رسالة الكندي الشهيرة في التاليف الموسيقي ، وفي ترتيب النغم الدال على طبائع الاشخاص وفي الايقاع ، سبقا حقيقيا في علوم الموسيقى وصنعتها  . ولعلنا لانذهب بعيدا حين نشير الى اهم انجاز موسيقي على مستوى التاريخ ، انجزه الفارابي في كتابة الشهير (الموسيقى الكبير) فهو اول من تحدث عن التنافر وتعدد المقامات ، وتعدد الاصوات  . واذا كان العالم يشهد لارسطو كتاب فن الشعر الذي عد دستور البشرية الادبي حتى عصر النهضة ، فان كتاب الموسيقى الكبير كان ينبغي ان يكون له مثل هذا التاثير , وكذلك تاثير تراث اخوان الصفا في رسائلهم في الضروب والايقاعات . اما في السرد وهو اول الفنون المعاصرة واكثرها اهمية فقد كانت العصور الاسلامية معنية به , منذ المقامات وكتب الجاحظ وابي حيان التوحيدي . ولعل كتاب الف ليلة وليلة من اهم ما اخذته اوروبا من العرب ، يقف في موازاته كتاب (سرفانتس , دونكيشوت) ، الذي اعتبره الفكر الاوروبي بداية الرواية الاوربية . اما الفن التشكيلي فهو طفولة البشرية فقد وجدت رموز الكتابة في وادي الرافدين ، رسوما على جدران بابل وسومر وآشور ، ولايمكن فهم تاريخ حضارة العراق القديم الا بفهم الفن السومري القديم . اما الفن الاسلامي في جانبه التشكيلي فقد عرف الارابسك او الزخرفة الاسلامية التي تزين جدران الجوامع واضرحة الاولياء ولاسيما مراقد الائمة في العراق والبلدان الاخرى . ومع ان نقدا غربيا لهذا الفن قائما على اساس الرتابة والتكرار ، فان فنا تشكيليا اخر وجد في العراق وتمثل في رسوم الواسطي الفنان العراقي الشهير الذي يعد احد اهم اعلامه .
      لقد وقفت المسيحية القديمة بوجه الفن وقفه حازمة فحاربت الموسيقى ، وحطمت التماثيل وقضت على اجمل مافي الفنون من تجليات إنسانية . غير ان هذا السلوك والموقف من الفن لم يستمر ، سرعان ما أصلحت الكنيسة في العصر الحديث مواقفها باتجاه الفن ، فانفتح الكنسيون الجدد عليه ، وتزينت قاعات الفاتيكان بأحسن تماثيل ليونارد دافنشي ، فقد زادت نظرة العصور الوسطى الى الفن وحلت محلها رؤية جديدة تجلت فيما قام به مارتن لوثر المصلح والمجدد المسيحي الألماني : “كان مارتن لوثر يعزف الموسيقى ، ويستمتع بغناء الاناشيد ، وقد ورث عن بعض أسلافه الكاثوليكيين موقفهم المتساهل من الاغاني الدنيوية . وأكد في تعاليمه على دور الموسيقى في تقويم سلوك المؤمن ، ودعا الى ان يحصل كل طفل بروتستانتي على تعليم موسيقي ويعد مارتن لوثر صاحب التراتيب اللوثرية ضمن المؤلفين الموسيقيين ، وهو صاحب المقولة الشهيرة : على المعلم ان يغني  , والا لن انظر في وجهه”5”.
     على هذا النحو جددت اوربا نفسها واصبح الفن بعد  من الأبعاد  المعرفية ، ولن تكون معرفة كاملة بلا وجوده ، ولاسيما في التزامل بين الفن والتاريخ . ولقد كان الدين على مختلف العصور باعثا للفن ، منذ الديانات الوثنية ماقبل التوحيد حتى مجئ النبي ابراهيم ، وبداية ديانة التوحيد .. ولعل الانشغال بالتوحيد ، دفع المسلمين  الى نفي كل مايتعارض مع ذلك ، لذلك ظن الكثير من المسلمين ان الفن و الدين  ضدان لايلتقيان .. ولكن المعابد الاسلامية ظلت حافلة بالشكل الفني ، من منائر وقباب ومذهبات كما ان شكل العمارة الاسلامية هو احد وجوة الارتباط بين الفن والدين ولقد تعددت أشكال المآذن في العالم الاسلامي ، كما ان كل مئذنة تدل احيانا على العصر الذي تنتمي إليه . كما ان ارتباط الفن بالدين ظهر في شكل كتابة الايات القرانية في المساجد ، وتنوع خطوطها على وفق خطوط اللغة ، وبعضها يطعم بمواد واصباغ خاصة لجعلها أكثر قبولا ولتثير البهجة لدى المشاهد والزائر لهذه الأماكن . وقد اعتنت بعض مذاهب المسلمين بتذهيب المنائر والقباب في أضرحة الأئمة ، وهذا دليل على ارتباط وثيق بين الدين والفن .. فأصبحت هذه الأضرحة فضلا عن كونها أماكن مقدسة تحفا فنية في الخارج والداخل ، ومع ان العمل الفني فيها هو عمل رمزي مجرد ، الا ان الامر تعدى ذلك الى فن الرسم الذي يصور الأشخاص وان كانوا مقدسين ، فصور الائمة تظهر في كل مكان وتطبع بملايين الصور على الرغم من خشية ان يتطابق الرمز المرسوم مع الرمز الأصلي وقد يحدث ذلك إشكالا ما . لقد رافق التطور العلمي في اوربا تطور فكري وتطور ديني أيضا , فأصبح الدين اكثر تسامحا مقارنة بالعصور الوسطى ومحاكم التفتيش واتسع مفهوم النقد لكل شئ في الحياة ولا يستثنى من ذلك المقدس . أما نظرة الفقهاء للفنون فقد بقيت محنطة بشكل عام يزيدها التشدد الإسلامي جمودا .. فحارب الفقهاء الفن التشكيلي وأطاحوا به وهاجموا السينما والمسرح وحتى الشعر لم يسلم من تعريضهم وحنقهم عليه ، لقد انشغل المسلمون بالمذاهب أيما انشغال   ,يتلقون الروايات ويعيدون إنتاجها بلا توجيه نقد حقيقي للنص او العقل الذي يقف وراءها ، ولقد شغلهم الجدل المنطقي ردحا طويلا من الزمن وانشغلوا بذات الله وصفاته ، ومنحوا وقتهم الطويل لقضايا الفقه والأصول  والجدل والخلافات حول ذلك بلا انتباه الى ربط ذلك بالحياة ,  ولا سيما وان عصر المعلومات اخذ يطرق الأبواب بقوة فإما أن تجدد نفسك ومعلوماتك وطرق محاكمتك للنصوص  ,او تغلق بابك وتنزوي في مسائل ما عادت تحتاج الى كل هذا الانشغال .
 
اقتراب الفكر من الفن
 
    اذا كان للفن علاقة وثيقة بالدين فله مثل هذه العلاقة بالفكر وامة لا فن لها لا فكر لها.. وقد عرفت اليونان فن الملاحم، لكن البابلين كانو قد عرفوها قبلهم، وحاول بعض النقاد تفسير الملاحم تفسيرا ماديا مثل المفكر المجري جورج لوكاش اذ قارب بين الملاحم البابلية والملاحم اليونانية بما اسماه التطور التيبولوجي.. المتعلق بتطور الشعوب الذاتي او الديالكتيكي، فالملاحم مرحلة من مراحل التطور العقلي عند الشعوب، وقد تجلى فن الملاحم البابلية في محلمة كلكامش، التي اعتنى بها العالم الغربي خاصة ايما عناية “.. ما وصلنا من الادب البابلي الميثولوجي ملحمة كلكامش اقدم الملاحم الذي عرفها الادب الانساني، اذ انها سابقة على الملاحم اليوناينة بالف وخمسمائة سنة. واشتملت على رؤية متقدمة في فلسفة التاريخ الانساني وعلى تصور عميق لفلسفة الحضارة الانسانية، فضلا على احتوائها على كنز من الدلالات التاريخية والدينية والسياسية والاخلاقية”. واذ ترجمت هذه الملحمة البابلية الى كل لغات العالم الحية وطبعت مرات، وشرحت على يد اكثر من عالم اثار، ظل الفكر الاسلامي بعيدا كل البعد عنها، لانها تمثل تراثا وثنيا، ولولا يقظة الفكر العالمي لضاعت كل اثار بابل وضاع كنز تاريخي وفني، ولفقدنا القدرة على فهم وجودنا الحاضر بسبب فقداننا لتاريخنا الفني. لقد اعيد انتاج هذه الملحمة في الغرب وعاد الينا بشروحاتهم وكأنها جزء من ثقافتهم واصبح تراثنا القديم طريقا للتدخل الغربي في حياتنا، فهم الذين اكتشفوا هذه الكنوز في ارضنا وهم اعادوها الينا جاهزة فاصبحت وكانها جزء من ثقافتهم اكثر مما هي عنوان لثقافتنا القديمة.
لقد توقف الشعراء امام بوابة عشتار واسد بابل والزقورة والجنائن المعلقة.. سواء شاهدوها عيانا ام تمثلوها في مخيالهم بعد ما سرقت او دمرت. وكان الشاعر الذي يكتب عن سر الجمال في هذه المنحوتات يقدم مثالا لارتباط الفن بالتاريخ، لقد وقف البحتري الشاعر العربي الشهير، طويلا امام جدارية الدولة الساسانية الغاربة في المدائن قرب بغداد، وكانت هذه الجدارية لما تزل تشير الى عنفوان هذه الدولة قبل ان يزيل المسلمون حكمها الطويل وكتب رائعته السينية التي وصف فيها هذه الجدارية ورقي الفن التشكيلي الذي ابدعه. كانت لوحة البحتري الشعرية تلاقي الجدارية المرسومة بالالوان، وتقنيات الفنانين القدماء وربط الشاعر بين الماضي والحاضر عن طريق هذه اللوحة الفنية.. يلاحظ في قصيدة البحتري ارتباط وثيق بين الفن والتاريخ ولا ندري في هذه القصيدة اهي عرض تاريخي ام عرض فني، ام هي التحام بين الاثنين. مثل الجدارية هل هي فن ام هي تاريخ.. على هذا النحو نستقصي اللقاء بين التاريخ والفن ولعل الشواهد كثيرة من القديم والحديث نذكر مثلا قصيدة احمد شوقي لعروس النيل التي هي لقاء بين الشعر والفكر وبين الاسطورة والتاريخ.
 
تجديد الفكر :
 
    لم يكن مقترب التجديد في الفكر, من القضايا المعطاة والمعروفة , فلطالما حاول المسلمون تجديد فكرهم.. وتلوين عقيدتهم بالوان الحداثة والمعاصرة , ولسنا هنا في معرض استعراض لذلك، غير اننا لابد ان نشير  الى  العصر الحديث بعد ان ازدهرت علوم اوروبا واخذت تصنع نموذجا يتطلع اليه الآخرون، فالاساس هو اصلاح الحياة وجعلها ممكنة العيش , والاساس ايضا هو محاولة  صنع فردوس ارضي يقارب الفردوس السماوي، غير ان المسلمين دخلوا كما هو حالهم في كل مرة مشتتين، لا تجمعهم مؤسسة ويعترض طريق نمائهم الفكري الكثير من الاقوال والروايات والاحداث التاريخية، فشهدنا نوعين من تجديد الفكر الاسلامي يناقض احدهما الاخر .. النوع الاول هو محاولة رفاعة رافع الطهطاوي في تقريب الحياة الاوروبية بعد ما عاشها ووعاها في القرن التاسع عشر، وكان هذه الاتجاه اساسا لمفكرين اخرين اتبعوا المنهج نفسه.. اما الاتجاه الاخر المناقض للاول هو تجديد محمد بن عبد الوهاب، ولا يمنع الدارسين وبعض المؤرخين الاشارة الى ان ما قام به بن عبد الوهاب هو تجديد , لانه عودة الى الاصول، غير ان المتمعن في هذه الحركة يلحظ انها اعادة انتاج لعقلية التخاصم والتكفير في اسوأ حالاتها، تلك العقلية التي عانى منها المسلمون الى هذا اليوم .. والتي اثبتت فكرا مشوها وفسرت النصوص الدينية تفسيرا يتفق مع رؤيتها الضيقة وتصورها المحدد، وقد مثل هذا النوع من التجديد محنة كبيرة لانه ايقظ العداوة والبغضاء، وقد كان التخاصم عنوانا لهذه الحركة “والتخاصم هو التجاذب السلبي لانه يقوم على علاقة تضادية، حيث يوجد طرفان كل طرف يسعى الى الظهور بمظهر الاقوى، بوجود الاخر سيدا علية وامرا بامتلاكه والتصرف فيه، والتخاصم هو التفاعل التخريبي داخلا وخارجا، مادام كل طرف يقدم نفسه بوصفه مالك الحقيقة، يقود المسكون به ليمارس عنفا ضد من يعتبر الاخر الغريب الادنى قيمة، وكأن هناك قوة قاهرة غيبية تسكنه وتتصرف به، لا يجد الى التخلص منها سبيلا وهو من جهة ثانية يشرعن لكل اجراء يقوم به شرعنة ميتافيزيقية لاهوتية هي سلطته المرجعية، انطلاقا من واقع يعيشه ناسوتي النشوء والتبلور والتحول بحيث يسهل تداخل اللاهوتي من الناسوتي على اكثر من صعيد.
هذا النوع الذي اطلقنا عليه مجازا التجديد هو تراجع بحجة تجديد الدين ونفي البدع، وبينما وجد هذا النوع من التجديد انصارا في العالم الاسلامي , لم يجد الطهطاوي ورفاقه اذنا صاغية في هذا العالم.. ولم تتحول دعواه  الى برامج علمية حديثة تعمل على اصلاح ما علاه الصدأ. فلم تكن هناك حركة تنوير واسعة تلجأ الى فهم الاخر ومحاورته بعدتها الثقافية اللغوية الحضارية، وانقطع شوط المجددين لان من السهل رميهم بالعلمانية ومعاداة الاسلام، فيما نشط الاتجاه السلفي مالئا الفراغ الذي تركه الاوائل ومستغلا الفراغ الهائل الذي وجد بعد ان انكفأ المصلحون، وبسبب غياب المؤسسة الفكرية الاسلامية وضعف ارادة التجديد، فالمعروف في كل فكر انه دائما يتحرك الى امام ولا يجمد على حال .. فاذا جمد فان هذا يعني تراجعا أي أن حركة الصعود الى اعلى  ,ترافقها حركة النزول الى اسفل , وغياب التجديد يعني النزول وهذا هو ما يحصل الان في واقعنا الفكري.
      واذ سمح جمود الفكر العربي الاسلامي ودورانه حول مقولاته القديمة، ورواياته المتكررة , ان يظهر تراجعا فكريا خطيرا في الواقع الاسلامي , استغله التطلع الاوروبي المتحفز وملأ الفراغ , باسرع ما يتصوره عقل ناقد. فمنذ مطلع القرن الماضي ظهرت بوادر الثقافة الاوربية تتجلي في البنية العربية والاسلامية وتزداد تجليا مع مرور الوقت , اذ رافق حركة الصناعات والمخترعات التي غيرت الوجه المدني للحياة نزوع ثقافي فلسفي قديم شمل الحياة العربية بكل مناحيها. ففي النقد الادبي مثلا قدم الفكر الاوروبي مناهج دراسة النصوص الادبية .. من المنهج التاريخي الى المنهج النفسي مرورا  بالمنهج الجمالي والمنهج الفني… وكلها نتاج العقل الغربي، وظهرت اسماء الفلاسفة المثاليون والعقليون ومنهج الشك عند ديكارت ثم ماركس وفرويد وكأننا فعلا باتجاه غزو ثقافي فعلي، ولا اسميه غزوا ابدا هو نتاج تلاحق فكري لابد منه بين الامم وبلا تفعيله في الحياة الثقافية الفعلية , لا يبقى معنى لهذه الحياة  ,اذ لم تقدم البيئة الثقافية المحلية ما يوازي ما يقدمه العقل الاوربي.. وكان الاخذ من جانب واحد , فنحن نأخذ ولا نعطي شيئا. الا ما فاه به العقل الاسلامي في القرون الاولى الخوالي، الذي لا يد لنا فيه، فهو نتاج القدماء.
       بدت الثقافة الاسلامية وكأنها ذات وجه واحد تأخذ ما يتعلق بالثقافة من فقه واصول ومنطق، وتركت ما دون ذلك، لذلك استعانت بأرسطو ايما استعانة حين بدأ عصر النهضة الاوربي يبتعد عن ارسطو وعن الثقافة الكلاسيكية , وحل المنطق الحديث محل منطق ارسطو، الذي لو اعتمدوه في تنويرهم لما انتج لهم شيئا. وتواصلت العناية بالفكر الاوربي .. وبقي المثقفون العرب يتطلعون  لما ينتج في  الغرب ليجددوا به ادواتهم  المعرفية , وحين ظهرت البنيوية في ثمانينات القرن الماضي عدت وكأنها اكتشاف عربي لا اوربي، لكثرة عناية العرب بها، وكذلك مدارس ما بعد الحداثة.. على الرغم من التشويه الكبير الذي رافق فهم تلك المناهج، فهي ابنة بيئتها الثقافية ونتيجة لتراكم معرفي لاحق على سابق. وبدا ان التجديد العربي يدور في افق التجديد الاوربي شئنا ذلك ام ابينا. وبدا الغرب ملهما للاجيال المثقفة، سواء في فنه السردي ام التشكيلي ام مدارسه المتجددة ام في فنه المسرحي، وظهر التطلع نحو الغرب قيما واساليب يقابل ذلك تخلف الحياة العربية وجمودها. وفي اطار هذا الفراغ الهائل في الفكر والممارسة، تربع الفكر الاوربي   على الحياة الثقافية العربية.
 
الفن والتاريخ
 
          اذا كان التاريخ هو الذي يحدد مديات التطور الفكري، فان الاقتصار على التاريخ السياسي هو الذي جلب جمود العقل، فالمحرك  للتاريخ هو الفن، وقد نشأ التاريخ في حضن الفن مثل ما نشأ الدين في حضنه ايضا “كان الدين باعثا على الفن، فقد اكتسب المصري القديم فنه من عقيدته , وابدعت فنون التشكيل والنحث روائعها في رحاب الدين، ونشأ المسرح ايضا في احضانه وقد كان المسرح الاغريقي اقدم المسارح ذا طابع ديني وما زالت طقوس الدين واحتفالياته مصدر الهام للفن الدرامي الحديث، وكان نشأة الادب ذات علاقة وثيقة بمعتقدات البشر، حيث زخرت اساطيره باحاديث الالهة واخبار ممالكم وخوارقهم”. ان اقتران الفن بالتاريخ هو احد الاسباب التي تعطي معنى جديدا  له وهو الذي يسمح بالانفتاح على الاخر القديم والمعاصر، ويخلص البشر من عقد العداء  والخصام التي تكاثرت في تاريخهم السياسي وكانت سببا في صراعهم العقائدي ايضا.
       ان الحادثة التاريخية هي حادثة تأويلية .. وقد يصبح التاريخ مثل الكتابات الهيروغليفية كما يقول ديورانت , حين يتحدث عن النظرة الشاملة , فيقول عن بعض المؤرخين ” في اذهانهم بعض العقائد الدينية يرغبون في اثباتها او برنامج حزب سياسي يودون اعلان شأنه , او هم وطني يريدون فرضه، فهم لا يجسرون على رؤية وطنهم او حزبهم او عقيدتهم في ضوء النظرة الشاملة، ان ثمانين بالمائة من جميع التاريخ المدون هو اشبه بالكتابات الهيروغليفية، فهو موجود لتمجيد جلائل اعمال الملوك والكهنة ”  لو ربطنا التاريخ بالفن لزاد لدينا الانفتاح على الفنون القديمة والفنون الحديثة، وحاورنا الاخر حوارا موضوعيا، انطلاقا من المشترك الفني بيننا وبينهم، ووقفت المذاهب على معمار واحد اسمه المعمار الاسلامي، فالمسلمون يتوحدون في منائرهم وفي قبابهم , وهي في الاصل قد وجدت في عصر ما قبل الاسلام، فلو اقتربنا من الفن لسمحنا بالاجتهاد المقبول في تسويغ الوجود الفني مثل المسرح والسينما والتشكيل، ولوجدنا اصولا مشتركة لهذه الفنون، ولازدهرت هذه الفنون ووجدت لها ارضا خصبا في موطنها الاصلي (ارض الرافدين). فالاجتهاد مفتوح عند بعض المذاهب الاسلامية .. لكنها لم تستثمر هذا الاجتهاد بالشكل الذي تبني به ثقافة الفن التي هي اساس ثقافة التسامح واللقاء مع الاخر.
     ان اهمال الثقافة الاسلامية للفنون انطلاقا من اساس عقائدي كما يظن، وسعت الهوة بين المجموعات البشرية، وترك المجال لامم اخرى ان تعيد انتاج ثقافتها وتصورها  على انها   خلاصة التجارب الانسانية، ويجد المتطلع الى ان البيئة الاسلامية قد اقصت الفن , واذا استمر هذا الاقصاء فهو باعث على العجز والخيبة والانحلال. يتدخل الفن في بناء شخصية الانسان تدخلا اساسيا، ونحن في هذا الزمن نقترب  مما قامت به اوروبا المسيحية في القرون الوسطى حين عاقبت الفنانين وابعدت نتاجاتهم، ولكن سرعان ما تخلصت الكنيسة من هذا الوهم وسارع المعلمون الكنسيون الى احياء الفن من جديد منذ عصر النهضة الى هذا اليوم. ان قوة الفن موجودة في الارض الاسلامية لقدمها والديانات التوحيدية الثلاث لا تلغي قسرا ما كان موجودا في حواضر المدن السومرية والبابلية، ولا يمكن ان تلغي المشتركات الفنية بين المذاهب بعد هذه الديانات.
ان تفسير التاريخ في اطار الفن , سيغلق الفجوة الكبيرة , التي يتسرب منها الغزو الثقافي للبلاد الأسلامية  وسيرفع التحريم عن الموسيقى , وسيغدو لنا دور للأوبرا  في كل المدن بلا استثناء ,وسينصت طلاب المدارس للأنغام المهذبة ,بدلا من ان ينصاعوا  للأصوات المتوحشة , التي تصنع منهم  اعداء متخاصمين .
 
 
     إن ارتباط الفن بالتاريخ، او رد التاريخ الى مفهوم عام في الفن، وهي العبارة التي تحقق تجانسا فكريا، يبدو في الادبيات المتداولة امر لايمكن فهمه، فما التاريخ الا مجموعة وقائع، تؤخذ من مظانها المعروفة، ليعتبر بها، في صياغة حاضر البشرية.. لكن هذا التاريخ الذي نطلق عليه بالتاريخ السياسي، لم يحقق ما نصبو اليه، فهو لم يدون التدوين المحايد منذ فجر التاريخ، وكتبة التاريخ يمالئون طرفا دون اخر، ولا شك في تدخل اهل السلطان في كتابته، وهذا لا يعدم وجود تاريخ مدون موضوعي وصحيح، ولكن فرز هذا التاريخ لابد ان يكون صعبا ومستحيلا.. ونتيجة لذلك فان التاريخ بهذا المعنى عقد حياة المعاصرين وكان سببا في اضطراب حياتهم. ان الحادثة الواحدة يمكن ان تصاغ صياغات لغوية مختلفة، مما يزيد كفة التخاصم والاحتراب، وبعض هذا التاريخ مقدس، ويعني هذا ان يجافيه النقد.. وبعضه يدخل التفسير في تحديد معانيه ومواضعاته، ويختلف التفسير باختلاف القاعدة الفكرية والعقائدية. لهذا كله اشرنا الى تاريخ اخر , يغض الطرف عنه إما عمدا او سهوا، وهو تاريخ الفن الذي يجب ان يكون موازيا للتاريخ السياسي بل عليه ان ياخذ مكانا يليق به. ان الانتباه الى تاريخ الفن يمكن ان يشير الى ما يأتي:
1.    الفن مرتبط بالنقد، فلا فن بلا نقد، والمعرفة أساسا لا توجد ولا تنمو الا في اطاره. لذا فان عصر النهضة الاوربي، كان عصرا نقديا، افتتحه الفلاسفة فيما يطلق عليه بالفلسفة النقدية.
2.    الفن والتاريخ يوحدان المجاميع البشرية ولا يفرقانها، لان الفن هو نتاج الشعوب جميعا، وبذلك فهو يقلل من عقلية التخاصم التي بنيت على أساس التاريخ السياسي.
3.    الفن يقوي النزعة الإنسانية , وينظر  الى المستقبل، فالفن لا تاريخ له، فهو ماض متحول إلى مستقبل، لذا فهو يشكل الوحدة العاطفية والعقلية للبشرية، أما التاريخ السياسي فهو ماض , يريد بعض الدارسين إحياءه.
4.    الفن والتاريخ عاملان يمكن أن يصوغا حياتنا المعاصرة، فوجود الفن مرافقا للحياة، يعني انه ضرورة لا غنى عنها، وحين يرافق الفن الاديان، فهذا يعني ان الفن يوجد حيث توجد العقائد وحيث يوجد التاريخ .. ومن ثم فان حياة بلا فن هي حياة بلا معنى.
5.    ونتيجة لما سبق فان الموسيقى والفن التشكيلي والمسرح والشعر والرواية وكل الفنون المعاصرة، قد وجد الكثير منها في طفولة البشرية، وهي لما تزل موجودة في مراحل حياة الإنسان، لذا فان الحياة المعاصرة لابد أن يشكل الفن جزءا من بنيتها، وان تحريمه او منعه مخالف للطبيعة الإنسانية، ومخالف للأديان أصلا  التي نشأت الفنون في أحضانها.