في السياسة، كما في الطبيعة، لا يوجد فراغ طويل الأمد. هذه القاعدة الحتمية تحكم مسار الأحداث على مر العصور، فالسلطة والمصالح والنفوذ لا تنتظر، وإذا تخلى عنها أحد، تسارع أطراف أخرى لاغتنامها. هذه الحقيقة ليست مجرد نظرية، بل واقع متكرر شهدناه في مراحل مختلفة من التاريخ، حيث أدى تراجع قوة معينة إلى صعود أخرى، وساهم غياب قيادة إلى بروز قيادة بديلة، بل وأدى انسحاب لاعب سياسي إلى دخول منافس جديد.
لكن لماذا لا يوجد فراغ في السياسة؟ الجواب بسيط: لأن السياسة، في جوهرها، تدور حول القوة وإدارتها، وهذه القوة لا يمكن أن تبقى معلقة. عندما يتراجع لاعب سياسي– سواء كان فردًا أو دولة أو تيارًا فكريًا— يأتي غيره ليملأ هذا الفراغ، إما طوعًا وإما قسرًا. وأولئك الذين يخطئون في تقدير هذه القاعدة يجدون أنفسهم في موقف الضعيف، بعد أن فقدوا الفرصة لصنع القرار أو التأثير على مجرى الأمور.التاريخ مليء بالشواهد التي تؤكد أن ترك الفراغ في السياسة هو بمثابة التخلي عن المصير لصالح الآخرين.
في عام 1991، انهار الاتحاد السوفييتي، وانتهت الحرب الباردة بانتصار الغرب بقيادة الولايات المتحدة. لم يكد العالم يستوعب الحدث حتى بدأت أمريكا في ملء الفراغ الذي تركته موسكو. توسع حلف الناتو شرقًا، واستُبدلت الأيديولوجية الشيوعية بنموذج الديمقراطية الليبرالية في دول أوروبا الشرقية. لم تُتح لأي قوة بديلة فرصة ملء الفراغ؛ إذ سارعت واشنطن لفرض نفوذها، فأصبحت القوة العظمى الوحيدة في العالم طوال عقد التسعينيات.
لكن روسيا لم تبقَ صامتة إلى الأبد، إذ عادت لاحقًا في عهد بوتين لمحاولة استعادة نفوذها، بدءًا من التدخل في أوكرانيا عام 2014 وحتى حرب 2022. وفي الوقت الذي ترددت فيه بعض الدول الأوروبية في اتخاذ موقف حاسم، ملأت واشنطن هذا الفراغ عبر تقديم الدعم العسكري لكييف. وهكذا، لا تزال اللعبة مستمرة: من ينسحب، يخسر نفوذه لصالح غيره.
عندما قررت الولايات المتحدة غزو العراق في 2003 وأطاحت بنظامه ، لم يكن هناك بديل واضح يحكم البلاد. كانت واشنطن تأمل في إنشاء حكومة موالية لها، لكنها لم تكن مستعدة لملء الفراغ بنفسها بشكل مباشر. في هذا الفراغ، دخلت إيران بقوة عبر دعم الميليشيات الموالية لها والجماعات السياسية، مما جعلها اللاعب الأكثر تأثيرًا في المشهد العراقي خلال العقدين الماضيين.
لقد أعطى انسحاب أمريكا من العراق في 2011 فرصة ذهبية لإيران، التي سارعت إلى تعزيز نفوذها، ليس فقط في بغداد، بل في سوريا ولبنان واليمن أيضًا. هنا، نرى كيف أن غياب طرف قوي ترك مساحة مفتوحة لقوة أخرى، ربما لم تكن في الحسبان.
حين اندلعت ما سميه بـ ( ثورات الربيع العربي) ، كان المطلب الأساسي هو التغيير، لكن لم يكن هناك تصور واضح لمن سيحكم بعد سقوط الأنظمة. في مصر، بعد سقوط نظام حسني مبارك، تولت جماعة الإخوان المسلمين الحكم لفترة قصيرة، قبل أن تملأ المؤسسة العسكرية الفراغ عبر ثورة 30 يونيو. في ليبيا، أدى الفراغ السياسي بعد مقتل القذافي إلى حرب أهلية، حيث حاولت عدة أطراف محلية ودولية ملء الفراغ، فدخلت تركيا وروسيا ومصر وفرنسا، وأصبحت ليبيا ساحة صراع مفتوح.
أما في سوريا، فكان غياب سيطرة واضحة من النظام بعد 2011 فرصة لصعود قوى متطرفة مثل “داعش“، الذي استغل الفراغ ليؤسس “دولة” امتدت على مساحات واسعة قبل أن يتم هزيمته لاحقًا.
الكثير من القادة والسياسيين يظنون أن بإمكانهم الانسحاب أو التراجع ثم العودة لاحقًا لاستعادة نفوذهم. لكن الواقع يثبت أن الفراغ الذي يتركونه لن يبقى فارغًا، بل سيملؤه خصومهم. هذه القاعدة تنطبق على كل شيء: إذا انسحب حزب سياسي من المشهد، سيأخذ خصومه مكانه. وإذا تراجع زعيم عن دوره، سيجد من ينافسه.ونفس الحال إذا تخلت دولة عن منطقة نفوذها، ستجد دولة أخرى تسيطر عليها. في عالم السياسة، لا توجد “فترات راحة”، بل صراع دائم على السيطرة والتأثير.لكي تكون فاعلًا في السياسة، عليك أن تكون حاضرًا، وألا تسمح للآخرين بأخذ موقعك. وهذا يتطلب: المبادرة وعدم الانتظار: لا تنتظر حتى يتحرك الآخرون، بل كن المبادر في اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات. وعليك التخطيط الاستراتيجي: لا تترك أمورك للظروف، بل خطط مسبقًا لما يمكن أن يحدث إذا تراجعت أو انسحبت.مع بناء تحالفات قوية: إذا لم تستطع السيطرة وحدك، فابحث عن تحالفات تعزز موقعك.استخدام جميع أدوات القوة: القوة لا تعني فقط السلاح، بل تشمل الإعلام، الاقتصاد، الدبلوماسية، والثقافة.
السياسة لا ترحم من يعتقد أنه قادر على الانسحاب والعودة متى شاء. فحين تترك مكانك، لن تجده فارغًا عند عودتك، بل ستجده ممتلئًا بخصومك أو بأطراف جديدة لم تكن تتوقعها. لذا، القاعدة الذهبية في السياسة هي: إما أن تملأ الفراغ بنفسك، أو سيملؤه غيرك، وربما لن يكون ذلك في صالحك.