منذ أربعة آلاف عام ووادي الرافدين بساط أخضر، عطاء، مدرار، أطلق على أرضه أرض السواد لكثرة زرعها، وتنوع ماتطرحه من ثمار على مدار السنة من دونما انقطاع، وماذاك إلا لتعدد مصادر المياه بين أمطار وروافد وأهوار ومياه جوفية، فضلا عن دجلته وفراته، الممتدين برشاقة يغدقان الجبال والهضاب والصحارى والسهول بما جعل الله منه كل شيء حي، فيزدهر به الزرع ويرتوي الضرع.
وبذا من المفترض ان يكون خليفة الله في هذه الرقعة من الأرض، مخصوصا بالعيش الرغيد ومتنعما بالحياة المترفة، فقد تهيأت له أسباب الرفاهية ودواعي الـ (نغنغة). ولكن واقع الحال يبعد كل البعد عن هذه الافتراضية، وسكان وادي الرافدين ينأون كل النأي عن الحد الأدنى من الهناء والدعة والطمأنينة، بل هم يعلّون كأس الفقر والفاقة والعوز علا، ويعبّون من قدح الضيم والظلم وشظف العيش عبّا، فيما ينهل سلاطينهم وحكامهم وأولو أمرهم من القدح المعلى، ويرفلون في النعيم والحرير والزبرجد والسندس، ويقضون أيامهم دون مشاكل ومصائب يغرق في لجها العراقيون.
أسابيع معدودات تفصلنا عن شهر أيار من عامنا الجاري، والذي سيخوض فيه العراقيون عملية انتخاب وانتقاء واصطفاء، من المفترض ان تعطي أكلها وتسفر عن تغيير واقع بلاد الرافدين، الموشح بالسواد منذ أربعة عقود، وقطعا هذا لن يأتي تلقائيا او عفويا او كما نقول؛ (عثرة بدفرة)، بل سيتحتم على الناخب والفائز المشاركة في البناء لبنة لبنة.
وقد يقول قائل: وماذا بعد الانتخابات؟! فالكرة ستكون في ساحة المرشح الفائز، وهو أمر معمول به في حالتي كون الفائز أهلا للمسؤولية الملقاة على عاتقه أو العكس، إذ يعتمد مقياس تقدم البلد بمفاصله على أداء الفائز دوره من خلال منصبه، وهذا ما اعتمد عليه الناخب في حدسه وتخمينه يوم توجه الى صندوق الاقتراع. أما لو خيب ذاك الفائز ظنون ناخبيه، وقلب لهم ظهر المجن، وتقنع بوجه (چينكو) فالحال حينها لن يكون بأفضل من سابقه، بل أسوأ بكثير. لكن هذه المرة هناك أمر مختلف، على الفائز وضع ألف حساب له، هو أن الناخب لُدِغ من جحر مرات ثلاث خلال السنوات الماضية، ومن غير المعقول أن يلدغ مرة رابعة. فقد بات المواطن يفقه كل صغيرة وكبيرة من ألاعيب رؤساء الكتل وأعضائها، كذلك لم تعد تنطلي عليه أحاجيج نائب برلماني -او حتى رئيسه- في حال زاغ عن الحق، او راغ في أداء مامنوط به من واجبات تجاه البلاد والعباد.
إن الكرة الآن في ساحة الناخب، وبحلول شهر أيار، ستتحول الى ساحة المرشح الفائز بالانتخابات، إلا أن إساءة التصرف والخروج عن الإدارة السليمة، واجترار مفردات الفساد والتواطؤ والتحايل والتسويف وغيرها من تركات البرلمان في دوراته الثلاث السابقة، لايمكن أن تكرر رابعة، وتجد لها مكانا بين الفائزين الذين سيعتلون مناصبهم، إن كانوا صادقين فيما يطرحونه ويستعرضونه حاليا، من وعود وعهود وبرامج وخطط ومناهج.
وفي حال حدوث أمر كهذا، على المرشحين أن يتيقنوا أن المواطن سينتزع الكرة من ساحتهم، ويخلع عنهم مناصبهم بما جنت أنفسهم، ومحاسبتهم عاجلا وليس آجلا، وليردد بعدها السيئون والمسيؤون بيت ابن زريق البغدادي حين قال:
أعطيتُ ملكا لم أحسن سياسته
وكذاك من لايسوس الملك يُخلعه