23 ديسمبر، 2024 4:07 م

لم يكن للعرب في الجزيرة العربية تاريخ مدون مثل باقي الامم الاخرى وكل تراثهم كان عبارة عن حكايات واشعار يتناقلها الندماء فيما بينهم ، وتروى  للناس في مواسم الحج وفي اسواقهم الشهيرة الثلاث (عكاظ والمجنة وذي مجاز ) ، التي كان العرب يجتمعون فيها كل عام من اول ذي القعدة وحتى العشرين منه يتبادلون الاحاديث والاشعار ويتفاخرون فيما بينهم بأحسابهم وانسابهم حتى كانت سبب في حروبهم كما في حرب  (داحس والغبراء) .. وبقيت هذه الاسواق تمثل المراّة لنتاجهم الحضاري والفكري الى ان جاء الاسلام فتلاشت لاسباب اختلف المؤرخون في دوافعها ، فذهب ابن الكلبي..على انها تلاشت بفعل الحروب التي حدثت في الجزيرة العربية كما جاء  في كتابه (اسواق العرب )..بقيت هذه الاسواق في الاسلام الى ان جاء الخوارج بزعامة ابي حمزة الاباظي سنة 129 هجرية فخاف الناس ان ينهبوا ففروا واستغدوا باسواق مكة ومنة وعرفة ..واما الجاحظ في كتابه (الحيوان ) فقد ذهب الى ان سبب اختفاء هذه الاسواق هو مجيئ  الاسلام والقيم والمفاهيم الجديدة التي نادى بها والتي هي منافية لما كان يدور فيها من تفاخر وهجاء وعصبية قبلية ..بقوله (كانت هذه الاسواق قائمة في الجاهلية فهدمها الاسلام )..واما باقي الامم فكانت تولي نتاجها الحضاري والفكري وحراكها التاريخي اهمية كبرى ، وذلك من خلال تدوينه والحفاظ علية كاليونان والفرس واليهود ..فقد احتفظ اليونان بسجل واضح وكامل لتاريخهم الممتد لقرون طويلة  من خلال مؤرخهم هيروتدوتس الذي عاش (484_425 ) قبل الميلاد وحفظ تاريخ الشعوب الاخرى اضافة الى اليونان كالفرس والميديين في تسع مجلدات وصلتنا كاملة كتب فيها عن عادات وتقاليد وتاريخ الشعوب الواقعة على البحر المتوسط بما فيها مصر ودول شمال افريقيا ..واما اليهود فقد ظهر عندهم لعديد من المؤرخين حفظوا التراث والتاريخ اليهودي وروجوه للاخرين على الرغم من الالتباس الموجود فيه امثال (فيلون الاسكندري ) الذي عاش في القرن الاول قبل الميلاد فالف 57 كتابا في تاريخ اليهود حفظ فيها تاريخهم وتراثهم ، الذي يشكل جزء مهم من المنظومة الدينية لديهم ..بعكس العرب الذي نزل الاسلام بين ظهرانيهم واختارتهم السماء ليكونوا مادته الخام ، لينتقل بعدها الى الشعوب الاخرى كدين انساني وقيمي بصورة سلمية لا كما حدث في ما يسمى بالفتوحات ..فالقران الذي يعتبر اصح الكتب عندهم ودستورهم الالهي لم يجمعوه ويصنفوه الا بعد اكثر من خمسة عشر عام  من وفاة النبي محمد (ص) وانقطاع الوحي ..وتحديدا في خلافة عثمان بن عفان (رض)..بعد ان خاف عليه من الاندثار لمقتل الكثير من حملته في الفتوحات وموت او سفر الاخرين الى بلدان بعيدة عن الجزيرة العربية ، واما السنة النيوية لما تحويه من سجل قيم وصحيح للاحداث التي مر بها الاسلام اثناء نشأته الاولى فقد منع تدوينها او تداولها من قبل الخليفة عمر بن الخطاب (رض) ..لاسباب تحتاج الى اعادة نظر وتصويب وبذلك حرمت الامة من سجل صادق للاحداث لاغبار عليه ، لان السنة تمثل مواكبة النبوة لهذه الاحداث ( قولا وفعلا وتقريرا ).. ولم ترى السنة النبوية النور  الا بعد اكثر من قرن من وفاة النبي (ص) ..وان اول من قام بجمعها هو الخليفة عمر بن العزيز حين كتب الى عامله وقاضيه على المدينة ابي بكر بن حزم (انظر ما كان من حديث الرسول فأكتبه فأني خفت دوس العلم وذهاب العلماء )..وقد جمع ابي بكر بن حزم الجزء الاكبر منه ..لكن الذي جمع الحديث  ودونه هو محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري المولود سنة (58) هجرية وكان معاصرا لعمر بن عبد العزيز فجمع مايقارب (2200) حديث وقد نقل عن التابعين لاضمحلال جيل صدر الرسالة باكمله ..واما التاريخ والسير فقد عمدت السلطة الاموية على منع تداولها او كتابتها بقول الخليفة عبد الملك بن مروان ..(وددت لو لم ينشغل احد بالسيرة النبوية لما فيها من تقديم لبني هاشم والانصار )..هذا سبب واضح وجلي عن السبب الذي كان وراء اندثار السيرة النبوية لقرن ونصف بعد وفاة النبي (ص)..فوجود العدويين اللدوديين لبني امية فيها وهم بني هاشم والانصار ، حال دون ذلك والمفارقة الغريبة ان كل من كتب السيرة بعد ذلك اتهم من بعض علماء الامة بالتشيع لذكره فضائل علي بن ابي طالب (ع)..كابن هشام وابن اسحاق الذي يعد اول من كتب السيرة النبوية بأمر من الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور حين التقاه في الحيرة وطلب منه ملازمة ابنه وولي عهده محمد المهدي وكتابة السيرة النبوية وذلك سنة 169 هجرية اي في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري ..وهنا يحضر العامل السياسي وبقوة في كتابة التاريخ ودور السلطة في صياغته وتوجيهه تبعا لاهوائها ورغباتها ..فبني امية منعوا كتابة التاريخ حسداً من بيني هاشم والانصار والعباسين كتبوا السيرة بغضأ لبني امية والعلويين العدوين الاكبر لهم ..فكتب ابن اسحاق سيرة المسلمين الاولى في ظل العباسين ورعايتهم فولدت ضبابية مثيرة للجدل لسببين الاول هو تاثير السلطة الحاكمة عليه في كتابة الاحداث والوقائع ، والثاني هو بعده عن زمن الاحداث لاكثر من 150سنة فنقل عن ابناء اليهود فيما يتعلق  بغزواة النبي (ص) التي اختص بها اليهود كغزوة بني قريضة وبني القينقاع وبني النضير وغزوة خيبر وجعلهم مصدره الاساس في ذلك ..كما قال فيه امام المالكية مالك ابن انس ..(كان ابن اسحاق زنديق يروي عن اليهود )..وقال ابن هشام (كان يروي عن اليهود والنصارى ويسميهم اهل العلم الاول )..وقد أقر ذلك الذهبي في كتابه (سير اعلام النبلاء ) وبرر عمله كونهم المصدر الحقيقي لنقل احداث الغزوات التي تعرضوا لها من قبل المسلمين وانهم من اهل كتاب ..اضافة الى انه عرف عليه ميله للنساء وروايته عنهن كقول ابن هشام (كان يروي عن فاطمة بنت المنذر زوجة هشام بن عروة بن الزبير.. وبقول هشام كان يروي عن زوجتي وقد دخلت علي وهي بنت تسعة سنين ولم تخرج من المنزل الا لقبرها )..اي تسائل زوجها كيف اخذ عنها  ابن اسحاق وهو لم يرها  ..والعجيب في الموضوع ان ابن هشام نفسه قد كتب سيرته اعتمادا على سيرة ابن اسحاق وكان يذكر في بداية كل رواية عبارة (قال محمد بن اسحاق )..واما اول من كتب التاريخ الاسلامي فكان من نصيب كاتب اخر مثير للجدل وهو ابو عبد الله محمد بن واقد المدني المعروف بالواقدي (130_207) هجرية فقد كلف الخليفة  العباسي هارون الرشيد وزيره يحيى البرمكي ان يختار من يكتب التاريخ الاسلامي ، فوقع الاختيار عليه..فكتب التاريخ برعاية واشراف الرشيد ووزيره البرمكي الذي وفر له كل السبل لذلك فالف ستة عشر كتاب في التاريخ كان اولها كتاب (التاريخ والمغازي )…
فغير ماغير واخفى ماخفى وشوه وبدل تبعا لاهواء السلطة وكان اول ضحاياه علي بن ابي طالب (ع)  واولاده ، فقد عظ الطرف عن ذكرهم او سرد اخبارهم ، وقسى كثيرا على بني امية كونهم أعداء بني العباس   والمشكلة الكبرى ان كل رواة التاريخ الذين جاءوا من بعده كان هو مصدرهم الرئيسي في رواية الاحداث كالطبري والمسعودي وابن كثير وابن الاثير  وغيرهم العشرات ..والامة قد سلمت بما رواه وجعلته دستورا وحين جاء الطبري ليروي ماتجاهله الواقدي بحق علي واولاده اتهم من بعض علماء الامة بالتشيع ..واتهم المسعودي على انه معتزلي..وان ماذكرت هو ليس تجني على الرجل بقدر ماهو تحليل موضوعي لسيرته الذاتية فاهو راي علماء الامة فيه .. قال عنه الذهبي (خلط الغث بالسمين والخرز بالدر
ورغم ذلك رويت عنه المغازي والسير)..والشافعي قال عنه (كذاب) وقال البخاري..( ليس عندي حرف واحد له)..أن الاملاءات السياسية والصراعات الفكرية في صدر الرسالة المحمدية  هي التي فرضت على الامة ومنعتها من تدوين تاريخها زمن حدوثه وحرمت تداول السنة النبوية الشريفة قبل ضياعها ودخول الغث والسمين عليها وخضوعها للاهواء والميول والتي لو دونت في حينها لاازالت الكثير من الالتباس والغموض الذي يشوب فقهنا الاسلامي ، وقننت الاختلاف الدائر حاليا بين المسلمين ، فهاهم رواة تاريخنا الاسلامي المثير للجدل والتساؤلات المحيرة لكثير من الاحداث التي رويت ونقلت منه وبالخصوص  عن النبي(ص) والتي اساءت له وللاسلام عن قصد او غير قصد ، والتي استغلها المتصيدين بالماء العكر للاساءة للاسلام  ..هؤلاء الروات الذين نقلوا لنا تاريخنا والفاصل الزمني بينهم وبين الاحداث التي روها عقود طويلة ومورست عليهم الضغوط والاغراءات ليكتب هذا التاريخ  برؤية الحكام والسلاطين ..  اذن نحن بعد اثنا عشر قرن عن كتابة هذا التاريخ نتخاصم ونتقاتل وندور في جدلية ازلية اعتمادا على كذابين وزنادقة كتبوا تاريخنا بين ديباج القصور ودفوف الغواني.