22 ديسمبر، 2024 11:16 م

من قصص الواقع الممزوج بالخيال سالم السماك

من قصص الواقع الممزوج بالخيال سالم السماك

يقف بزورقه المتواضع على شواطئ نهر دجلة وهو يعتاش قوت عياله من ذلك النهر فتراه يبحر فيه مسافة تصل الى مئة كيلو متر احيانا وهو يرمي شباكه بين منطقة واخرى مستغلا ضياء الشمس وعند غروبها يلجأ الى شاطئ النهر او الى احد الجزر الوسطية لينام داخل زورقه بعد ان ثبَت مرساه في الارض….
وعادة ماتكون سفرته لقطع هذه المسافة تستغرق عدة ايام وربما اسابيع ودائما يحمل معه اللوازم الشخصية من متطلبات قوري الشاي وبعض الخبز ويكون اغلب طعامه مما يجود به نهر دجلة وما تصطاده شبكته من اسماك النهر…..
رأيته احد المرات على حافة نهر دجلة القريب من قريتنا في عهد الطفولة وتأملت به جيدا وكيف يستطيع تحمل عبء هذه المهنة الشاقة وهو في مرحلة الكهولة من العمر. كان هذا بالتحديد عام 1986 وعندما اقتربت منه وبعد تحية السلام سألته عن وضعه العام وصحته وكيف له تحمل مشاق السفر النهري على ظهر زورق متهالك تقريباً.. فقال لي انها ظروف المعيشة وبعد ان تناقشنا قليلا رغم فارق العمر بيننا وجدته انسان ذات قلب طيب وقد تجاذب الحديث معي بعد ان اطمأن لفضولي بسؤاله…
قال لي انا من مواليد مدينة الموصل ولدت عام 1936 في منطقة الميدان وهذه المنطقة عزيزي القارىء الكريم يطلق عليها حاليا المدينة القديمة وقد رزقني الله بخمسة بنات وولد واحد وجميعهم طلاب في جامعة الموصل اصغرهم يدرس كلية التربية وهي ابنتي المدللة سحر…
وابني احمد يعتبر ترتيبه في العائلة هو الرابع وهو حاليا طالب في كلية الهندسة المعمارية والبقية جميعهم في كليات اخرى.. تعجبت من كلامه وكيف مرت عليه كل السنين حين قال انا اعمل سماك منذ ثلاثين عام ولي ذكريات مع دجلة كثيرة جدا ومنها مصدر رزقي الوحيد…وكما ترى اقضي اسابيع في النهر لأصيد السمك ثم ابيعه في اقرب سوق في المنطقة واعود لزورقي لاستمر في البحث عن رزقي وعندما اجمع قليلا من المال اقوم بتأجير سيارة لتحمل الزورق واعود الى عائلتي ومعي بعض المال لكي اواصل مسيرتهم العائلية وهكذا تعودنا على هذه الحياة..
ولكنني واثناء حديثي معه لاحظت طابع الحزن في حديثه ورغم ان مرحلة عمري لا تسمح في حينها من السؤال الشخصي الا ان الكلام يأتي تلقائيا من انسان خاض تجربة قاسية مع الحياة…
وهنا عرف من كلماتي السؤال عن خلفية تلك الحسرات ولماذا لا يرغب الاستقرار في المدينة ويتعلم ويعمل مهنة اخرى فقال تزوجت زواجي الاول من ابنة خالتي وكانت تعمل ممرضة في احد مستشفيات مدينة الموصل وكان عمري لا يتجاوز الثامنة عشر سنة ورزقنا الله بتوأم من البنين سبحان الخلاق الذي رسمهم في احسن وابهى صوره.. وبعد ان تجاوزا عامهم الثاني وفي احد فصول الشتاء القارص وكما تعرف شدة برودة الجو في مدينة الموصل اصيبا بنزلة برد شديدة وذهبتم به الى اغلب اطباء الموصل في حينها ولم اجد لهم العلاج اللازم ولم يتشافوا من علتهم والتي لم تمهلهم اكثر من شهر واحد وفي صباح احد الايام ونحن نسكن في منزل مساحته خمسين متر وعندما جلسنا انا وامهم التي تتهيأ للذهاب الى الدوام ذهبت لا يقاضهم لتجدهم جثث هامدة من دون حراك صرخت بأعلى صوتها وتجمع الجيران عندنا وانا قد اصابني الهول والذعر من شدة هذه المصيبة والناس من حولي يطلبون مني الصبر واذا بزوجتي قد ذهبت الى داخل حمام البيت لتشعل نفسها وتصيح وتصرخ.. تمكنا من فتح الحمام واخماد النيران وذهبنا بها الى المستشفى وبقيت هناك سبعة ايام ولكن الاطباء كانوا يعرفون ان مستوى الحريق قوي جدا ولايمكن لها ان تعيش وكل يوم ازورها تقول لي ياسالم سأذهب الى ابنائي فانا اسمع صراخهم يستنجدون بي ويقولون يا ماما نحن ننتظرك.. سأذهب واتركك وحيدا فاذكرنا بالخير ياسالم….
سبعة ايام وفارقت بعدها الحياة لتدفن قرب قبور اطفالها وليبقى عمك سالم وحيدا يكافح الحزن..
كنت اذهب يوميا اتكلم مع نهر دجلة القريب من بيتنا واحكي له قصتي وبقيت على هذا الحال سنة كاملة حتى ظن الناس واهلي انني فقدت عقلي وفي احد الايام التقيت بأحد الاشخاص وكان كبير في العمر وقال لي اراك منذ مدة وانت تجلس على طارف النهر تكلم نفسك فحكيت له قصتي وقال يابني الحياة لا تتوقف وحكى لي قصة مرت عليه اهوالها اكبر من مصيبتي وقام يأخذني معه في الزورق وعلمني على الصيد وبعد سنتين تزوجت زواجي الثاني من احدى بناته التي هي الآن ربة البيت وام الاولاد وبعدها بمدة فارق الحياة وهذا الزورق شاهد على ما بقى من ذكريات بيننا. وهذه قصتي مع الحياة ومع نهر دجلة.. مع طفلين لم يستطيع الطب انقاذهم ومع زوجة لم تتحمل مأساة وهول المصيبة ومع عائلة نجحت في اختيار مستقبلها العلمي…
وانا كاتب القصة بقيت اتابع العم سالم السماك الذي فارق الحياة هو الآخر وقد طلب من عائلته ان يدفن قرب زوجته الاولى واطفاله وتم تنفيذ وصيته…
ومازالت عائلته تحتفظ ببقايا زورقه كذكرى لرجل مكافح استطاع ان يؤمن لهم الحياة من خلال عمله كسماك هذه المهنة الشاقة والتي تتطلب قابلية بدنية قوية للانسان……
انها قصة العم سالم السماك انقلها لكم بقلمي وبأدبيات بسيطة وكل أملي هو رضاكم…..