الرجل الميت رقم 13
الجزء الخامس والاخير
وفي الصباح شاهدوا قدوم باصات من الجهة المقابلة وهي ترفع علم الصليب الاحمر الدولي فقام ومن معه باستقبالهم وتم تبادل الكتب الرسمية وتمت اجراءات تسليم الاسرى للجانب العراقي فتسلم الملازم اول انضباط سرمد القوائم من ممثل الصليب الاحمر الدولي والذي يذكر عدد الاسرى واسمائهم وتم على الفور ادخالهم الى الباصات وقام الملازم سرمد بجرد الاسماء والتأكد من العدد حيث ينادي داخل كل باص على الاسير وهو يقرأ اسمه للتأكيد فقط وبدأ بالباص الاول الاسير رقم واحد فلان ابن فلان هل موجود فيجيب الاسير العائد نعم سيدي… وهكذا الا ان وصل الرقم الثالث عشر فصاح طلال عبدالله مناف فقال نعم سيدي موجود ولكنه ما نطق الاسم حتى تجمد الدم في اعراقه انه اسم والده الثلاثي وفجأة وبشعور لا ارادي تقدم من الاسير وسأله من اين انت ياعم فقال انا من العاصمة بغداد. ودون تردد من اي منطقة في بغداد. فأجابه من منطقة بغداد الجديدة فصاح يا الاهي هل معقول ذلك وزملاءه والجميع لا يعرفون ماذا يقصد والاسير ايضا لا يعرف ماذا يريد منه هذا الضابط الشاب.. فقال له ياعم حدثني ارجوك عن عائلتك فأجابه عندما وقعت في الأسر وتركت عائلتي كان والدي يعمل جابي في مصلحة نقل الركاب في بغداد وزوجتي موظفة في الجامعة المستنصرية ولدي ولد اسمه سرمد وبنت اسمها نور تركتهم قبل سبعة عشر عام وهم صغار السن ولا يعرفون عني اي شيء وكل عائلتي مقطوعة عني وعنهم الاخبار كونني كنت من ضمن الاسرى الممنوع الوصول اليهم واثناء شرحه ودموع الملازم سرمد تنهمر ولايعرف ماذا يفعل الى ان قال له الاسير تحتاج معلومات بعد سيدي فصاح وحضنه انا لست سيدك انا ابنك سرمد وانت والدي واننا تسلمنا جثة شخص وتصورناها هي جثتك ولا اعرف ماذا اشرح لك ياوالدي.. فقام بإعطاء الاوراق للتدقيق الى زملاءه الضباط الاخرين وانزل والده وعلى الفور الى سيارته الخاصة واستأذن من جماعته وانطلق مع والده الى بغداد والاثنان غير مصدقين لما يرون وبقوا مسافة الطريق يدردش بعضهم البعض فسأل الوالد ابنه عن كل ما يدور بذهنه عن احوال وصحة عائلته ليطمأن عنهم واجابه على كل اسئلته واصبح الطريق بعيدا للوصول الى بغداد وكان سرمد يسير بسرعة فائقة جدا وهو يفكر كيف سوف ينقل خبر والده الى اهله وماهي الى ساعات حتى وصل العاصمة بغداد فاتفق مع ابوه ان يبقيه داخل السيارة بعيدا قليلا عن البيت حتى لا تكون الصدمة قوية على امه وجده وجدته وفعلا تم الاتفاق فدخل سرمد الى المنزل ووجد الجميع قد اجتمعوا على سفرة الغداء وسلم عليهم وحمدوا الله على عودته من المأمورية وطلبوا منه الجلوس معهم على طاولة الطعام لكنه قال انه قد اكل قليلا في الطريق وكان في داخله شيء كبير لا يستطيع تحمله ولكنه ايضا لا يستطيع البوح به.. انتبه جده اليه فقال اراك غير طبيعي ياحفيدي ياسرمد ما الامر.. خيرا ان شاء الله.. فقال كل الخير ياجدو وبدون تردد صاح ياامي العزيزة ماذا تقولين لورأيتي ابي الآن فقالت ما بك يابني احترم مشاعر اجدادك ودعهم يكملوا وجبة طعامهم. فقال انا اتكلم حقيقة ماهو رأيك انت وجدي وجدتي فقال جده ياسرمد لو طلبت مني كل اموال الدنيا لأعيد ابني للحظة واحدة لأعطيتهم ذلك فتبسم وقال سوف اقوم لآتي لكم بوالدي الشهيد فنهض الى سيارته وانزل والده وادخله عليهم فصرخت والدته ووقعت على الارض من رؤيتها ابنها وكذلك والده اما الزوجة فبقت لاتعرف ماذا تقول واخته ساره نهضت تركض الى غرفتها لارتداء حجابها ظناً منها انه شخص غريب وغير مصدقة ما قاله اخاها سرمد.. اما الاسير طلال فدخل وسجد على الارض ونحيبه يسمعه الله والملائكة والناس وبعد لحظات فاقت الجدة وفاق الجد من غيبوبتهما غير مصدقين لما تراه اعينهم ولكنه ابنهم طلال بدمه ولحمه بتراسيم وجهه وعلامته الشامة الموجودة على خده الايسر رغم كبره في السن واعتلاء الشعر الابيض رأسه.. يا الله ما ارحمك. يا الله ما اكرمك في هذه اللحظات فقام السيد طلال باحتضان والده ووالدته لتنضم اليهم زوجته ام سرمد وابنته نور والجميع في بكاء ونحيب ولأكثر من ساعة والجميع يتكلمون في عيونهم فقط. بعدها تحدث السيد سرمد عن مفاجأة سفرته وكيف التقى بوالده ثم تحدث الوالد عن المعركة التي فقدوا فيها وكيف تمت عملية اسرهم ولماذا لم يستطيع الصليب الاحمر الدولي من التوصل اليهم كل تلك الفترة.. ولكن الله افرج عنه حين اصيب بمرض وتم نقله الى معسكر آخر يوجد فيه ممثل للصليب الاحمر فتم تسجيل اسمه على الفور حيث ابلغوه ان عملية اعادته الى العراق سوف تكون بعد اسبوع واحد مع كل الاسرى الموجودين في هذا المعسكر وفعلا وغير مصدق ها انا بينكم الآن ولا اريد ان اتكلم لكم عن أيام الاسر وكل دقيقة تمر هناك في معسكرات معزولة وبعيدة عن عالم الاحياء وليس لي رغبة بازعاجكم بسماع تفاصيل حياتنا هناك كأسرى حرب وكيف نأكل وكيف ننام ..
هنا تكلم والده عن ماحدث لهم منذ تبليغهم باستشهاده واستلام الجثة لشهيد آخر وكيف عاشوا مع الحزن لسنوات وكيف عانت عائلته من الصدمة الكبيرة لخبر وفاته… وتكلم كلا من افراد العائلة عن شعوره منذ اللحظة الاولى للحادث لحين فرحتهم جميعاً بعودته اليهم سالما من الأسر..
وماهي الى لحظات ليطرق الباب ويأتي اخاه وخواته وذرياتهم واصبح البيت يعج بالضيوف وبعد ساعة تقريبا حضر آمر الوحدة التي ينتسب اليها إبنهم سرمد ومعه كل الضباط بعد سماعهم الخبر من زملاءه ليباركون لعائلته وللملازم اول سرمد عودة أباه اليهم… انتشر الخبر بسرعة في العاصمة بغداد وانتشرت القصة التي عاشها الاستاذ طلال هو وعائلته ومارافقهم في حياتهم من مأساة وهموم والم الفراق…قامت ام سرمد منذ الصباح الباكر بالذهاب الى دائرة البريد والبرق والهاتف للاتصال باهلها وابلاغهم الخبر واتصل كذلك باهل خطيبة ابنها وكانت تسمع صوت الهلاهل والزغاريد عبر الهاتف…
تم زواج سرمد في الموعد المحدد وقد كان زواج من نوع خاص حيث حضر الكثير من المسؤولين وعوائلهم هذا الزواج واولهم رئيس الجامعة المستنصرية التي ينتسب اليها السيد طلال وعدد من القادة العسكريين والامراء الذين تربطهم علاقات طيبة مع العريس الملازم اول انضباط سرمد…
وقد استقر المطاف بالسيد ابوسرمد في بلده وهو يعيش مع اسرته ليعود بعدها الى وظيفته الجامعية التي فضلها على احالته على التقاعد.. ومع مرور الزمن استطاع نسيان الماضي والتمسك بالحاضر فتقدم لدراسة الدكتوراه وحصل عليها بتفوق وحمل اسم ولقب الدكتور طلال عبدالله مناف استاذ اللغة الانجليزية في كلية التربية الجامعة المستنصرية وحملت ابنته لقب الدكتورة الطبيبة نور طلال عبدالله من الطبيبات الكفوئات ضمن الاختصاص في مجال امراض النساء فيما حمل ابنه لقب النقيب المتقاعد سرمد طلال عبدالله من ضباط الجيش السابق والذي توجه الى العمل في القطاع الخاص واصبح صاحب محلات ملابس واكسوارات في اسواق بغداد الجديده وام سرمد موظفة متقاعدة. ومازال الجميع يعيشون في بلاد اسمها العراق ولكنهم جميعا يخافون من المستقبل المجهول.. مستقبل شعب يحب الحياة ولكنه لم يحصل عليها ومنحه الله كل ثروات الارض ولكنه لم يستفاد منها شيئاً…
هذه قصة الاستاذ الدكتور الجندي المكلف الاسير العائد طلال عبدالله مناف نقلتها لكم من مخيلتي القصصية وانا متأكد انكم سمعتم اومررتم يوما بمثل هذه الحالات…
تقبلوا تحياتي وفائق الاحترام لكم .