تعد زعامة المؤسسة الدينية الشيعية (المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف) الأقوى قراراً بين الزعامات الدينية في العالم الإسلامي والديانات الأخرى, وأصوبها رأياً, وأكثرها استقلالاً, طيلة مئات السنين الماضية, منذ أن وطئ النجف الاشرف الشيخ الطوسي عام 448 هـ- 1027 م بعد الإحداث الطائفية في بغداد.
وخلال تلك السنين الطوال؛ بقيت زعامة مؤسسة الدينية بعيدة عن التجاذبات السياسية والتأثيرات الخارجية, لسببين مهمين معاً هما: الأول؛ إن اختيار الزعيم أو المرجع الأعلى للحوزة العلمية لا يكون بقرار حكومي أو اختياري من عامة الناس, إنما مسؤولية الاختيار مناطا بتوجيه الإمام الحجة ابن الحسن المنتظر”عج” كون من يتم اختياره يمثل نائب الإمام “عج” في زمن الغيبة الكبرى, كما ورد في الحديث الشريف: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا, فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله), وهذا دليل جازم على إن لا تصدر فتوى بمثابة (قرار مصيري) ألا بتأييده كونه صاحب الأمر والزمان”عج”, إما السبب الأخر الذي يمنحها الاستقلالية, هو الاعتماد في مواردها المالية على (مبالغ الخمس) حصة الإمام المعصوم”عج” في أموال المسلمين, لذا فإنها ليس بحاجة لمساعدة من حكومة أو جماعة ما, يمكن أن تقدم لها ذلك لتصبح أسيرة لها.
وعلى إي حال فأن المرجعية الدينية العليا؛ تعتبر زعامة الأمة الإسلامية عامة, والمؤسسة الشيعية خاصة, وتتمتع باتخاذ القرار المؤثر روحياً وعقائدياً في نفوس المسلمين, وبالخصوص أتباع أهل البيت “ع” في الأمور الدينية والدنيوية.
وبعدما شهدت منطقة الشرق الأوسط والعراق تحديداً ظروف استثنائية بعد الحرب العالمية الأولى ألقت بظلالها على الواقع الاجتماعي والسياسي, ولم يكن حلاً سوى الرجوع للمرجعية الدينية, كونها صاحبة القرار الفصل والفصل الخطاب في ذلك, لاسيما بعد التدخلات الأجنبية نتيجة الغزو العسكري تارة, والفكري تارة أخرى, لذا نجد إن مراجع الدين العظام يتصدون لذلك بكل قوة وحزم.
حتى تقلد سماحة المرجع الديني الأعلى الأمام السيد علي الحسيني السيستاني زعامة الحوزة العلمية في النجف الاشرف عام 1993 م/ 1413 هـ, حيث مرت مرجعيته بمراحل مهمة متعددة, الأولى؛ مسؤوليته بالمحافظة على الحوزة العلمية بالنجف الاشرف من سطوة الدكتاتور الظالم بعد وفاة السيد أبا القاسم الخوئي, والمهمة الثانية؛ مواكبة التغييرات السياسية التي حدثت بعد عام 2003 إذ رؤيته وحكمته تمثل عين الصواب لموقع القيادة, والذي كان خير من يمثله باتخاذ الموقف المناسب لمعالجة التحديات الخطيرة اتجاه أبناء الشعب العراقي, وكان التحدي الأول: دعوته للعراقيين كافة للمشاركة بالاستفتاء على الدستور الدائم عام 2005 بعدم رفض سماحته الملاءات الأمريكية بكتابة دستور بالنيابة عن العراقيين, ولاختيار النظام السياسي الملائم لطبيعة التنوع الاجتماعي والمذهبي والقومي في البلاد, والتحدي الثاني: يكمن في إخماده لنار الطائفية بعد تعرض مرقد الإمامين العسكريين”ع” عام 2006 للتفجير من قبل الزمر التكفيرية, ودعوته أتباع أهل البيت”ع” للتحلي بالصبر وضبط النفس, لتفويت الفرصة على أعداء الوطن والمذهب.
أما المهمة الثالثة؛ وتمثل رأس الحكمة وقوة الإرادة, عندما تعرض العراق لاجتياح العصابات الإرهابية لمدينة الموصل في 10 حزيران 2014, بادر سماحته إلى إصدار فتواه العظيمة (بالجهاد الكفائي) والتي لم تصدر مثيلتها في العالم الإسلامي منذ مائة عام, ورغم التشابه بنوع الفتوى, ألا أن الظروف والتداعيات تختلف كلياً بينهما, ما جعل البصائر تشير إلى إن هناك بُعد غيبي وتدخل فيضي من قبل الإمام المهدي المنتظر”عج” تدخل في إصدارها, لان فيها أسباب إراقة لدماء المسلمين, وحفظ لموطن الأنبياء والأوصياء”ع” وصيانة للمقدسات.
وهذا ما جعلها في أعلى درجات القداسة, لهذا فأن للفتوى المباركة إبعاد سياسية واجتماعية متعددة لا يمكن إجمالها في نقاش محدد أو اختصارها في موضوع معين.