لا أنوي في مقالي هذا أن اخوض في الأمور الدينية، فهذا أمر يتصدى له الضليعون به، إلا انني آثرت أن استلهم عنوان مقالي هذا من الاحاديث التي تشير لدنو نهاية الوجود البشري على وجه امّنا الرائعة الارض. وهذا ديدن الناس القريبين من حافة اليأس وانعدام الحيلة، فالمجتمعات الأخرى التي تشاركنا سكنى كوكب الارض ليست مهتمة باستكشاف علامات الساعة، انما هي منهمكة بإدامة الحياة والحفاظ على الارض بكامل صحتها وحيويتها، فالأمم العاقلة التي قرأت كتب الله تعالى بإمعان، تعلم جيدا إن نهاية الوجود مرهون بإرادة الله تعالى وانه لم يتعهد بتقديم أية علامة.
ولكنني ازعم انني ألمَحُ بعض العوامل التي تنبئ بزوال العراق بتعريفه الحالي، يعزز ذلك علامات فارقة لا تحتمل التأويل ولا تدخل في عالم الغيب، بل نلمسها لـَمْسَ اليد ونراها بأمِّ العـَيْن، وهي:
• انهيار مفهوم المواطنة وتراجع اولوية الانتماء للوطن.
• الفساد المستشري في البلد.
• النمو السكاني الحاد في بلد يعاني من أزمة حادة في السكن والمدارس وفرص العمل لشعب يأكل ويشرب ويلبس ما لا ينتج.
ومن وحي أزمَتَيْ البطاقة التموينية وصفقة السلاح الروسي اللتان تعصفان بالبلد الآن حتى وقوع نائبة انكى واشد، ارتأيت تقديم الفساد المستشري باعتباره الاخطر والأكثر تدميرا للبنية التحتية المادية والروحية، لأنه اصبح ممتدا من ادنى المستويات الوظيفية إلى اعلاها، وصار هو السبب الرئيس لتردي الاداء الوطني على كل الاصعدة.
لقد ترسخ الفساد فينا بفعل فترات الظلم والاحتلال التي رزحنا تحتها، والتي كان اطولها الاحتلال التركي الذي دام أكثر من اربعمائة سنة، حين كان هـَمُّ الوالي الظالم هو إرضاء جشع الخليفة القابع في اسطنبول عبر استنزاف الشعب العراقي اعتمادا على شبكة فاسدة شريرة من الموظفين كانت تسرق لها وللوالي. نحن نعاني الآن من فساد لا يقل هَوْلًا عن ذاك الذي كان سائدا في تلك الحقبة.
إن آفة الفساد من الخطورة بحيث أن رئيس جمهورية الصين، هو جينتاو، حذر من أن الفساد الذي ينخر المجتمع الصيني قد يؤدي إلى «انهيار الحزب والدولة»، و«إذا ما فشلنا في معالجة هذه المسألة بالشكل الصحيح، قد تكون مميتة». لقد اطلق الرئيس الصيني تحذيره هذا رغم ان الصين هي القوة الاقتصادية الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة الاميركية، وان ناتج الصين القومي يتجاوز الناتج القومي لمجمل دول الاتحاد الاوروبي.
كـُنْتُ بصدد تعداد الدوائر الحكومية التي يتقاضى موظفوها الرشوة، ولكني بعد أن اكتشفت اتساعها، تراجعتُ عن ذلك، فلا مؤسسة محصنة امام الفساد. وليس خافيا على احد انه ما عاد ممكنا انجاز أي عمل في اغلب دوائر الدولة دون إن يدفع المواطن، بتلقائية تبعث على الالم، رشوة للموظف الذي يؤدي الخدمة مباشرة أو عبر وسيط. وصار المواطن يدفع يمينا ويسارا تحت مختلف الاسباب دونما كلل أو تذمر، بل إن مبالغ الرشوة باتت تدخل ضمن التكاليف وباتت تحظى بقبول اجتماعي.
إن موظفينا الفاسدين هم اناس عاديون عراقيون لم يهبطوا علينا من القمر، فهم مِنـّا وفينا. ربما يكون الفاسد أخا أو قريبا أو صديقا أو جارا، وليس صعب أبدا اكتشاف مظاهر الثراء المفرط والسريع البادي عليهم. ويتم التهامس احيانا حول الثروة التي هبطت على احدهم بشكل مفاجئ، ولكن هذا الهمس لا يتطور إلى حديث بصوت عالٍ بحجة عدم الرغبة في قطع رزق احد ما حتى لو كان مرتشياً.
أما الجانب الآخر من الفساد فهو التهاون في تنفيذ الواجب الذي لا يقل ضررا عن تعاطي الرشوة. فرغم تكدس الموظفين والعمال في كل دوائر الدولة إلى حد يفيض عن الحاجة، إلا إن الغالبية الساحقة من هذه الدوائر تقف عاجزة عن تنفيذ الاعمال الموكلة إليها عبر الاعتماد على كوادرها من الموظفين، بل أنها تلجأ إلى شركات القطاع الخاص والشركات الاجنبية، فرغم أُلـُوف العاملين في شركات الخدمات والبناء الحكومية، إلا أنها تلجأ لإحالة مشاريعها لمقاولين ثانويين لتنفيذ الاعمال الموكلة لها.
نحن نقف الآن في مفترق طرق خطير جدا، فالحكومة سلَّمت بعجزها عن استئصال الفساد أو حتى تحجيمه، فلتجَنُّبِ الفساد المستشري افقيا وعموديا في وزارة التجارة، قرر مجلس الوزراء تعويض المواد التموينية بمبلغ عيني دون تقديم آلية لتسليم المبلغ. وتعهدت الحكومة بمراقبة السوق المحلية للسيطرة على الاسعار ومحاربة الاحتكار. وهنا أيضا لم تقدّم الحكومة آلية واضحة ومُقْنِعة. فانتفض المواطن مستنكرا هذا الارتجال في أمنه الغذائي، وتساءل الشعب؛ كيف له أن يصدِّقَ بتعهدات حكومة عجزت عن الايفاء بأيٍّ من وعودها، وكيف للشعب إن يثق بإجراءات وزارة التجارة الفاسدة والعاجزة من الوريد إلى الوريد. وفي خضم هذا الجدال انفجرت فضيحة صفقة السلاح الروسي التي تم ايقافها لوجود شبهة فساد شابت الصفقة أبطالها مسؤولون كبار. ولم ينبرِ أي مصدر مسؤول بتوضيح ملابسات القضية، الأمر الذي ينبئ بحصول انفصام تام بين الشعب وأجهزة الحكم كافة.
اتيحت لي الفرصة في الصيف المنصرم أن اتجول في ستوكهولم، وأمستردام ودوسلدورف. وقد هالني مقدار اعمال البناء الضخمة الجارية في كل من المدن المذكورة رغم أنها غاية في التنظيم والحداثة. وبالتوازي تسير اعمال الصيانة لكل المرافق العامة والخاصة، والكل يعمل بدأب وإتقان كخلية نحل.
إن الاعمال الانشائية من جسور ومجمعات سكنية وطرق التي هي قيد التنفيذ في ستوكهولم الآن، تزيد على الاعمال التي انجزت في بغداد منذ 1970 إلى اليوم. وقد سألتُ مهندسا سويديا «ما الذي سيفعله احفادكم وانتم قد هيأتم لهم كل متطلباتهم منذ الآن»، فأجابني قائلا «إن لدى احفادنا اشياء أهم بكثير، وسينجزونها بالتأكيد».
أما في العراق، فمازلنا نجهل حجم الخراب الذي سَنُوَّرِثهُ لأحفادنا، لأن التدمير ما زال مستمرا نتيجة الإرهاب والفساد والقيم الفاسدة المتوارثة، ورغم كل هذا، مازلنا نردد بكل وقاحة إننا خير أمة أخرِجَت للناس.
ولله في خلقه شؤون