اللقلق
سوف اصدع رؤوسكم بقصة عن طائر اللقلق الذي عشعش في رأسي منذ ما يزيد عن الثلاثين عاما، وهي ليست عذبة بريئة كقصة اللقلق الذي يعرفه الاطفال الأوربيون حين يسألون اهليهم كيف يأتي الاطفال الى هذه الدنيا فيشبعوا فضول سؤالهم بان جاء بهم لقلق. على كل حال هذه قصة كانت مع ايم الحشمة التي كانت تزيين احاديث العوائل الاوربية اما اليوم فقد مات اللقلق الاوربي مع مصرع الحشمة في اوربا وربما العالم كله، الا ان لقلقي لم يرحل بعيدا بل لا يزال يعشعش في رأسي واسمحوا لي ان اعرضه عليكم ولو لمرة واحدة.
اراد العتاة بهذه الزنزانات الرهيبة ان يحطموا المعارضين ويسحقوا عزيمتهم قبل ان ينزلوا العقاب الاخير بهم. كانت هذه الزنزانات ممرا الى الموت المحتوم، ففي السنتين الاولى من الحرب كانت تودع يوميا عشرات الشباب الى محكمة الثورة حيث كانوا يتلقون حكما بالإعدام وكان تقريبا هو الحكم الوحيد الذي يسمعه السياسيون المعتقلون أيا كانت تهمتهم او سن بلغوه حتى لو كانوا دون الثامنة عشر الا القليل جدا منهم ممن كان يأخذ الحكم بالسجن المؤبد بضربة حظ ومشيئة قدر لا يعرف مغزاها. سوف نتحدث عن المحكمة وقصصها العجائبية في وقت اخر يناسبها ولكن الان فنرجع الى قصة لقلقنا.
بمعدل ثلاثين فردا في ستة امتار مربع لا يرتدون الا ملابس داخلية كان يتشكل المشهد. ولان الجو خانق يكتم الانفاس والحر شديد لحد ان السقف كان يمطر على مدار الساعة فما كان لهم ان يرتدوا غير هذه الملابس. المطر كان ينزل بفعل الانفاس التي لا تجد سبيلا للخروج من هذه الزنزانة لا هي ولا العرق الذي كان يتصبب من اجساد منهكة تعبى، وحتى في اكثر الايام قساوة في برد الشتاء القارس لم يكن ذلك يعني شيئا بالمرة لدى سكان الزنزانة لانهم لا يشعرون به ابدا جراء اكتظاظهم المتواصل. اكثر السجناء كانوا يفقدون ملابسهم في التعذيب وعندما ينتهي التحقيق معهم يُعطون اي شيء يستر عورتهم وعلى كل حال لم يكونوا بحاجة لأكثر من هذا فالمكان لا يلائمه ارتداء مزيدا من الاردية. لن احدثكم طويلا عن كم هو خانق هذا المكان فقط عن حادثة واحدة حصلت في هذه الزنزانات تفسر لكم كل شيء. في احد المرات انقطعت او قطعت الكهرباء وتوقفت الساحبة عن تفريغ الهواء ولان القصة مفرطة في القسوة تكاد نفسي تخرج من بدني حين اتذكرها لأني اعرف ابطالها فسوف اختصرها بكلمات موجزة. نفد الهواء ومات بعض من سكان الزنزانة اختناقا بلا حاجة لحبل مشنقة يفعل ذلك ودخل اخرون في غيبوبة. احد الضحايا كان زميلا لي في المدرسة ولا يزال وجهه يطل علي كلما تذكرت هذه الزنزانات الفظيعة.
توزيع المكان كان من اشد المعضلات التي واجهت بواكير طلائع السجناء السياسيين، الا انهم اكتسبوا خبرة كبيرة بمرور الايام اورثوها للأجيال اللاحقة وكان التقسيم المثالي كالتالي بما ان عرض الزنزانة مترين لذا فهو يكفي ليمتد به اي شخص فيصار الى ان ينام اربعة عشر شخص بطريقة متعاكسة قدم احدهم عند رأس الاخر ويناموا على جنوبهم طبعا اقتصادا بالمسافة لأنه من المستحيل ان يستلقي احدهم على ظهره ويذهب اربع الى خمس اشخاص على الاكثر الى دورة المياه ليجلسوا فيها ويقف متكئين على الحائط مجموعة اخرى ويبقى خمس اشخاص او اكثر حسب العدد الكلي اذ انه قد يصل بعض المرات الى ثمانية وثلاثين شخصا، وهؤلاء البقية هم اللقالق اذ يستحيل ان يجدوا مكانا يقفوا فيه فمن وقف على الحائط يجد متكئا يسند ظهره به بينما يجد لاحد قدميه موضعا اما من يقف في الوسط فعليه ان يظل هناك لمدة اربع ساعات واقفا كاللقلق على ساق واحدة وعندما يتعب يستبدل الساق اليمنى باليسرى والعكس بالعكس ويظل مواظبا على وقفته اللقلقية. هذا الامر كان يدوم لأربع ساعات متناوبة بين الواقفين ثم تجري عملية مناوبة مع النائمين وهكذا دواليك. كان يسقط البعض مغشيا احيانا لشدة ارهاقه او لحمى عارضة تصيبه او مرض يعتل بجسده المنهك من جراء التعذيب. بل ان بعضهم فارق الحياة لهول ما تعرض له من تعذيب. ولم يكن الطعام المقدم للسجناء يكفي للمقاومة فقد كان تقدم ثلاث وجبات عبارة عن قطعة واحدة في كل وجبة من صمون هش يذوب سريعا في الفم لا يسد جوعا ويقال انه مصنوع من طحين الذرة مع دجاجتين في العشاء يتقاسمها الجميع وبضع اكواب من الارز في منتصف النهار وقطعة من جبن على شكل مثلثات في اول النهار مع ثمانية اقداح شاي تقريبا على الكل ان يشرب منها ان اراد. هذا المقدار الضئيل لم يكن يساعد الابدان على المقاومة، في وقت كانت تتورم الاقدام من جراء الوقوف المستمر. المعاناة الاشد كانت دخول الخلاء اذ ينبغي خروج الاشخاص الخمسة منه وعليهم ان يجدوا مكانا مؤقتا لأنفسهم في وسط هذه الكتلة البشرية المتراصة وطبعا كان هذا مصدر ازعاج كبير جدا ومحنة حقيقية اذ كيف تجد مكانا لخمسة مقابل واحد فقط دخل دورة المياه وبسبب هذا كان البعض لا يحبذ الجلوس في دورة المياه، لأنه عرضة للتهديد المستمر بينما يفضله اخرون لأنه المكان الوحيد الذي يمكن الجلوس فيه والاستراحة من عناء الوقوف المستمر. هل رأيتم كم هو مقرف ان يكون خيار المرء بين الوقوف لقلقا او الجلوس في مرحاض ولا امر ثالث لهما. الحسنة الوحيدة في الزنزانة هو توفر ماء جار وكثير لان هذا لن يطول بقائه في السجن وسوف تسمعون عن معاناة شديدة مع الماء.
الا انه على الرغم من كل هذا الضيق والاغلال التي تقيد حركتهم فأنكم لن تصدقوا ماذا كان يحمل السجناء من عزيمة هائلة وارادة جبارة. لم يمنعهم هذا كله من الجلوس في ندوات يتحدثون فيها عن امور ثقافية ويتبادلون المعلومات ويجروا النقاشات في امور شتى حتى السياسية منها وجعلوا من هذه الزنزانات مدارس ثقافية ولم يتوقف الشعور بالمعارضة للظلم بل كان يزداد ويترسخ وكانت عرى التضامن تتوثق فيما بينهم ولا تحسبوا ان خفة الدم قد غادرتهم او فقدوا حس الفكاهة والتندر، ابدا بل كانت المزحة حاضرة دائمة حتى ان احدهم اطلق كلمة تندر خالدة حين قال لو قيض لي يوما الخروج من هذا المعتقل فسوف اصنف كتابا يحكي يومياتي واسميه “الوقفة اللقلقية في السجون العفلقية”.