15 أبريل، 2024 10:26 م
Search
Close this search box.

من شقوق الظلام الحلقة السادسة عشر

Facebook
Twitter
LinkedIn

زيارة الوداع
بعد أن انتهى التحقيق وأصبحت قضيتنا في الانتظار الأخير، فوجئنا يوما بحدث لم نتخيل وقوعه نظرا لتلك الظروف التي نعيشها فلم يكن بمخيلة احدنا انه سيحظى بفرصة للقاء أهله في هذا المعتقل ولكن هذا ما حصل. صعدت الى غرفة ضابط التحقيق يرافقني في صعود السلالم رجل أمن واحد كان متساهلا جدا معي ولأول مرة كنت ارى المكان بتفاصيله، تطلعت الى جدران المبنى بنظرات فاحصة دقيقة حتى اني لمحت توقيعا لصديق لي على لوحة كان قد رسمها وشعرت بمقت شديد له وغضب ينفجر في حشاشتي، حين رأيت توقيعه. كيف يسمح هذا المعتوه أن تعلق لوحته في هذا المبنى وهو الذي كنا نعتبره من طليعة الثوريين؟ ثم استرجعت وعيي مجيبا موبخا نفسي ما الذي دهاني هل جننت، وما ادرى الرجل ما يفعل برسومه حين تبتاع ؟ وانا ارتقي درجات السلالم مسرعا محاولا اللحاق بمرافقي منتشياً باللقاء، تكاثرت أمام ناظري صور صعودي الوئيد حين كانوا يقتادوني على نفس هذا السلالم وكيف كنت أحصي ثلاث عشر درجة وإذا أخطأت في الحساب تثار حفيظتهم لينزلوا بي قصاصا عاجلا. لا اذكر كم من خاطرة مرت عليَّ حينها كانت اوصالي ساكنة ولكن افكاري كانت ترتعد. أمواج هائجة من خواطر متضاربة وأفكار متناقضة واسئلة حائرة وردود عليها كانت تصيب لبها وتطفأ ظمأها بشكل عجيب كل هذا في اقل من الدقيقتين وربما أقل. انبثقت في وسط هذه الثورة العارمة خاطرة واحدة غريبة مرقت بسرعة البرق إنما كانت خارج نسق الأحداث تماما واثارت ذهولي لا اصدق حتى وانا اكتبها الان كيف أخرجت عنقها من بين هذا الركام، كانت تقول لي هذه الومضة مثل سنا البرق كيف لعقل الإنسان أن يحتوي كل هذه الأفكار ويجري هذا الكم من الحوارات الداخلية في لحيظات. تملكني انبهار غريب بقدرة العقل وتأملت ذي المسألة بروية مثل فيلسوف يمشي على ساحل بحر هادئ تطير قربه نوارس في نهار معتدل. ومثل وحي الشعراء اندلق علي فيض ثقة بما حبوت به كإنسان واصابتني رعدة فخر وتواضع في آن.

دخلت غرفة دافئة في اخرها منضدة صغيرة يجلس خلفها ضابط ورجال اخرون كانوا واقفين طوال الوقت تحسبا لأي حدث طارئ، لأني دخلت عليهم بلا قيود وعلى اليمين اريكة يجلس عليها والديَّ بانتظاري. كانت مشاعر الاسى والحزن تظلل وجهيهما وعيونهما الشاحبة امطرت نهر دموع لا يمكن وصف شدة جريانه ولا حرارته، نظرا الي مشدوهين مبهوتين الى اقصى الحدود وحدق فًّي والدي بنظرة تشي باضطراب شديد بينما كانت امي يعلوها وجوم، ظلت طائشة اللب طوال المقابلة، ولم تقوى على التفوه الا بنزر يسير من كلمات يمكن احصاء عددها حتى لتلميذ صغير تعلم الحساب مؤخرا. استجمعت كل قواي واضمرت ضعفي واحباطي امامهم. كان همي الشديد ان افهم ما الذي يجري خارجا و استفهمت بطريقة مشفرة بعض الشيء عن شخص يهمني اعتقل بسببي وتأكد لي عبرهما خروجه من المعتقل وكان خبر مفاجئا وسارا في آن. كانت مواجهة قصيرة سريعة لم تغير من الواقع الذي نعيشه شيئا ولم تكن محل تفاؤل رغم أن حصولها كان أمرا غير مطروق في معسكرات الاعتقال السياسي بالعادة حصلت فيها على بطانية وفيرة وملابس جديدة وسكائر وقليل من طعام صنع خصيصا لي وسكينة هدأت من روعي. الا انها رغم كل ذلك لم تشع جوا للتفاؤل اذ سادنا تشاؤم كثير بعدها فقد علمنا ان مديرية الامن هذه تعطي فرصة لأهل المعتقلين السياسيين فيها لإلقاء نظرة اخيرة عليهم قبل تنفيذ حكم الاعدام بهم. وقد عزز هذا التشاؤم استذكار حادثة قد وقعت بالفعل لطلبة جامعيين آخرين سبقونا في زمن الاعتقال. لا ادري كم واحد مثلي من قاطني الزنزانة قد ازداد يقينا بأننا ننزلق الى الهاوية التي سوف تبتلع الكل، أحدهم الذي كان رائدا في سبر غور هذه الحادث بنظرة التشاؤم، قد حصل ذلك له فعلا فيما بعد دون الآخرين للأسف. راودني احساس بان الارض ستنشق يوما بغتة وتبتلعنا إلى حيث لا رجعة، شعور الاطمئنان الذي بدا على محيانا بعيد الزيارة تناهى الى وجوم واستبدل بشعور من العدم حين جاء مع الفجر بضعة من حرس ذوي مزاج قاتم وطبع غليظ ساقوا نفر منا الى معتقل آخر تمهيدا لنطق الحكم عليهم في محكمة صورية كانت تستلم قراراتها من ضباط التحقيق، ها اذن قد أزفت الازفة وقربت ساعة اسدال الستار على الملهاة المأساة.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب