18 أبريل، 2024 3:25 م
Search
Close this search box.

من شقوق الظلام الحلقة الحادية عشر

Facebook
Twitter
LinkedIn

امتد إلينا الشتاء حاملا معه ليالي طويلة في وقت كنا نعجز فيه على العبور بين ضفتي النهار بلا ملل. كيف لنا أن نغتال كل هذا الزمن الثقيل؟ لا كتاب نقرأه ولا مذياع نسمعه ولا تلفزيون نشاهده، فكلها اضحت محظورات بل من المستحيلات. هذه أشياء تقع هناك بعيدا في ذاك العالم الذي صار خيالاً وأوهاماً. واظبنا لبرهة من الزمن على ازدراد ما حصل لنا في التحقيق وظروفه في أحاديث طويلة عريضة و بتكرار ممل، لذلك بدأ يتسرب ضجر وسأم منها وصرنا حتى نمقتها لأنه حديث لا جدوى منه إلا تكريس الهم. إلى أن وصلتنا فكرة تسلية جيدة وجديدة وهي لماذا لا نحاول أن نصنع من بقايا الخبز شيئا؟ نرجعه عجينا ومن ثم نعيد تشكيل هيئته بصنع مسابح. بصراحة لم يكن يستخدم هذه الا بعضنا وقليلا جدا، ولكن صنعها كان يبتلع الزمن بشراهة كما تطلب ذلك منا ايضا صبرا عجيبا. فكرة عمل المسابح استهوتنا وانتقلنا من العجين الذي كانت صناعته رديئة اغلب الاحيان لهشاشته وتكسره السريع، فهو لا ينجو من سحق بالأقدام او بالأجساد في تقلبات النوم مع ضيق المكان وكثرة ساكنيه. فكان قرارنا التحول إلى صناعة أخرى أكثر تطورا و اجود نوعية، أنها مسابح من نوى التمر الذي كان يصلنا بين الحين والآخر فكان جمعه يحتاج وقتا لا بأس به ثم ندخل مرحلة صعبة جديدة بتشذيبه على الأرض الإسمنتية التي كنا نفترشها. كان يستغرق ذلك أحيانا شهرا كاملا وربما أكثر من ذلك وفقط لأجل صنع مسبحة واحدة. لم يكن عملا سهلا بالنسبة لي فقد كنت دوما فاشلا في الحرف اليدوية ولا زلت احتفظ بهذه الخصلة السيئة لحد الآن. أما كيف نثقب هذا النوى فذاك وحده حكاية سوف تسمعونها قريبا.
ما علينا من ملابس بدأ يتهرأ أكثر مما هو عليه فعلا، وكان لابد من خيط وابرة لعلاج تشققات أصبحت في أماكن لا يصح التغاضي عنها لحساسيتها. ولكن لا سبيل الى الابرة والخيط في زمن الممنوعات الكثيرة. كنت كلما يصادفني ممنوع اتذكر أحمد فؤاد نجم واردد ما يقوله:
ممنوع من السفر

ممنوع من الغنا

ممنوع من الكلام

ممنوع من الاشتياق

ممنوع من الاستياء

ممنوع من الابتسام

وكل يوم في حبِّك

تزيد الممنوعات

وكل يوم بحبك

أكتر من اللى فات

ولكننا لم نكن نعدم حيلة للوصول الى ضالتنا في ما يقدم إلينا في فترات متباعدة من عظام الدجاج. كنا نفتش بين العظام عن أدقه ونصنع منه ابرة بعد معالجة دقيقة بالأرض الاسمنتية، اما الخيط فكان امره سهل فما كان علينا إلا أن نسحبه من بطانيات نفترشها أو نلتحف بها. كان استخراجه بالتأكيد يقلل من عمر هذه البطانية، لكن ذلك لم يكن مهما فإن عمرها مهما انتهكنا نسيجها فسوف يكون اطول من اعمارنا هكذا كنا نحدث أنفسنا أو نهمس بعضنا للبعض الآخر بينما نباشر استهلاك تلك البطانيات المنكودة.
نجحت تلك الابر الدقيقة في رتق ملابسنا بطريقة هزلية، إلا أنها كانت نافعة جدا وتفي كثيرا بالغرض ونفعتنا أيضا في خرم النوى الذي صنعنا منه مسابحاً.
الزمن كان طويلا لذا اخترعنا ومارسنا كل شيء للخلاص منه بانتظار موعد ما ومن جملة ما فعلناه أننا صنعنا من العجين شطرنجا، ومن غطاء علب اللبن بعد ان تنظيفه طبعا قطع دومينو. وكنا نتسلى غير آبهين بالموت الذي ينتظرنا وفي الأمسيات كنا نتحدث كثيرا في السياسة والثقافة، وشكلنا حلقة دورية نتناوب فيها ليلقي بعضنا محاضرات كأن تكون استذكاراً لكتاب كان قد قرأه المحاضر، أو مادة مطلع عليها بصورة جيدة وساعدنا في ذلك وجود أكثر من واحد ممن كان يهوى المطالعة واغلبنا كان متعلما إلى مرحلة الدراسة الجامعية. البعض كان يقرأ الشعر في مباريات بين فريقين ولحسن الحظ فقد كان بيننا بارعون في هذا المجال من الأدب، بل حتى كان بيننا شاعرا مثقفا مهتما بالفلسفة، يعمل محاسبا مصرفيا إلا أن كل ذلك لم يشفع له فيما بعد. لم تقدر مواهبه، بل إنها هي التي أسرعت به إلى مقصلة الإعدام مع زميلين آخرين من زملاء الزنزانة وآخرين كانوا معهم لم اتعرف عليهم جيدا او لم التقيهم اصلا. حاولنا حفظ بعض الأبيات بلغات وطنية أخرى غير العربية التي اتحدث بها، لأننا كنا مزيجا مختلفا من قوميات وتوجهات وافكار شتى توحدنا قضية واحدة هي مواجهة الظلم والسعي الى وطن حر.
هذا الشاعر كانت له قصة خاصة فقد اختطف بوشاية خائن ولم يكن يعرف احد لا من أهله ولا من رفاقه انه في احد الزنزانات المظلمة الانفرادية في القبو الذي سكنت فيه طوال فترة التحقيق و حدثتكم سابقا عن ظروفه الرهيبة. تم اختطافه للإيقاع بكل أفراد التنظيم عبر مندس متعاون مع السلطة القمعية. وبعد تلك السنة تم إلقاء القبض على المجموعة تقريبا بأكملها ورأوا صاحبهم لأول مرة كما رأيناه نحن. كان شاحبا ضعيفا يتقيأ دما وكان سيموت حتما لو تركوه هكذا ولكنهم ابوا الا ان يضعوا بصمتهم المقرفة فقتلوه هو وبعض من رفاقه. كان يحدثني هو وصاحب له عن العيش المر لأشهر في تلك الزنازين المظلمة وكيف ان اجسادهم كانت تتقرح من الجروح بعد أشهر من التعذيب المتواصل. هذه الجروح لم تكن تجد من يداويها ولا يمكن الاهتمام بنظافة الجسد اصلا كما شرحت من قبل عن ظروف هذا المكان الذي سكنته لفترة وجيزة. ظروف لا يتخيل أحد أنها تحصل لإنسان وربما حتى الذي يعرف وحشية النظام الدكتاتوري ايضا لم يكن ليصدق انها تحصل. كانت أشبه بلوحة سريالية سوداء وهاكم لوحة سريالية اخرى. فقد كان تعيش اسراب من الديدان بين القروح تمتص دمائهم. صاحبه الذي كان صائغ ذهب والذي سكن ايضا تلك الزنازين المظلمة الانفرادية كان يشفق على تلك الديدان عندما تسقط من بعض جروحه ويلتقطها ثانية من الأرض ويعيدها الى جرحه ويقول لها كلي من رزقك. الحياة عنده قد انتهت والنهاية باتت معروفة فلماذا هو لا يساعد الديدان على الحياة. لا استطيع حتى هذه اللحظة ان اصف مقدار رقتهما وانسانيتهما، وصدقا لو رويت لي هذه القصة من الف ناقل ثقة ما كنت أصدقها لولا أني رأيت بعيني جروح الرجل وندوبه وعشت في المكان نفسه لفترة وجيزة ورأيت فيه ما يشبه الخيال مما أعجز الآن عن سرده أو وصفه. كان أحدنا يقول لو روينا ما يحصل هنا لقال الناس عنا كلمتين لا غير: اما انكم كذبة أو مجانين. ولكن هذا الذي لا يصدق قد حصل فعلا، وقد حصل مضافا لهذا انهم قطعوا رأس صاحبيَّ المصرفي والصائغ مطعم الديدان.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب