12 أبريل، 2024 10:33 م
Search
Close this search box.

من شقوق الظلام الحلقة الثانية والعشرون

Facebook
Twitter
LinkedIn

قصص قصيرة
قبل أن يحين موعد محاكمتنا، انتثرت كثير من القصص القصيرة لم اعد اتذكر الكثير منها لأنه لم يكن هناك من قرطاس أدونها فيه سوى ذاكرة مشحونة بكثير من وقائع ثقيلة تحتل مساحة كبيرة منها ولم يبق مع لطمات الدهر ما يسعني الاحتفاظ بكل هذه القصص القصيرة. إلا أن بعضها تمكن من النجاة ومنها ما سوف اسرده لكم.
مثل سائر المعتقلات فهناك أصناف متنوعة من المعتقلين لأسباب أمنية ولا يمكن أن يصنفوا جميعا بالمعتقلين لأسباب سياسية او لانهم ذو نشاط معارض، بل بعضهم حتى كان من اتباع السلطة وأجهزتها القمعية فقد جاء الزنزانة يوما أحد المعتقلين ممن يسكن المنطقة القريبة من الحدود السورية وقص علينا نشاطه التخريبي لصالح المخابرات العراقية في سوريا من تفجير بعض الأهداف المدنية هناك وبعض الاعمال الاخرى الاجرامية. اعتقل بعد عودته من السجن في سوريا تحسبا من كونه عميلا مزدوجا للمخابرات على طرفي الحدود. حدثنا عن السجون السورية وطرق التعذيب فيها مثل الوضع في عجلة ودحرجتها من علو بالسجين وهي طريقة لم نعرفها في المعتقلات الامنية العراقية ربما لم تكن تعجبهم لأنها قد متخلفة وأقل فعالية قياسا لما يملكوه. وعلى ذكر وسائل التعذيب فإنها على ما يبدو كانت وفق مواصفات عالمية فكما قيودنا كانت تحمل عبارة صنع في رومانيا فطرق التعذيب يبدو انها حصيلة نصيحة خبراء اجانب فقد رأينا في احد الايام وفدا يتجول في مديرية الامن يبدو من سحنهم انهم من شرق آسيا ربما من الصين او كوريا.
وبالعودة لهذا العميل المخابراتي فقد كان يبدو مرتاحا مطمئنا غير قلق من وجوده معنا في الزنزانة وفعلا لم يتعرض لأذى جسدي وعلى الأرجح أطلق سراحه عندما أخذوه بعد أيام من الزنزانة بطريقة فيها احترام لان اعتقاله كان يبدو اجراءً احترازيا ليس الا. تبادلنا الحديث معه كان من باب الفضول وحسب ولم نشركه في أي نشاط خلال وجوده و تحوطنا منه كثيرا لأسباب لا تخفى عليكم. وكما جاء وغادر فقد مر علينا فلاحون ورعاة وطلبة لأسباب كثيرة لكنها لم ترق لمستوى يعرض أصحابها لخطر حقيقي مثل الذي كنا فيه.
كان هناك زنزانة كبيرة بعيدا عن زنزانات المعتقلين السياسيين وكانت تضم عددا كبيرا من المعتقلين لأسباب اغلبها غير سياسية بالصميم وان تعلقت بها بنحو أو اخر، وكثير من هؤلاء كانوا اناسا قرويين بسطاء اعتقلوا في حملة تأديبية بسبب نشاط معارض مسلح تقوم به جهات معروفة في مسعى من السلطة لإنزال العقاب والقصاص بكل القرية حتى وإن خرج منها رجل معارض واحد. كان الحرس يعاملونهم بازدراء واحتقار وتكبر بغيض فيسخروهم بالقوة لأعمال التنظيف رغم ان اغلبهم من كبار السن. كان مشهدا مفجعا ان ترى حارسا طائشا للتو بلغ العشرين من عمره وهو يذيق العذاب المر لرجل أربعيني ويسخر منه ويحثه للعمل بالركل على مؤخرته والصراخ عليه. ولان القرويين يكونوا أشد الناس تعلقا بالدين ويحظى بقداسة كبيرة في نفوسهم اكثر من اي احد غيرهم، خصوصا مع الجهل السائد والسذاجة التي هم عليها، فقد كانت فرصة لائحة لأن يستغل اي حارس قذر هذه الخاصية فيهم لإيذائهم بسب ولعن مقدساتهم. كنا نتطلع إليهم وهم في وجوم صادم يسمعون الألفاظ البذيئة عاجزين عن إظهار اي من مشاعر الاعتراض وان على قسمات الوجوه خشية العقاب الجسدي. كان منظرا يفطر القلب حقا ويجلي بوضوح بركة الحقارة والنذالة التي كان يتوفر عليها رجال الأمن. لم يكن أمامنا حلولا كثيرة لتغيير الواقع، إلا أنه بالمقابل لم نقوى على البقاء ساكتين، قدمنا اقتراحا للحرس بأن الجزء الخاص بنا من ممشى يؤدي إلى دورة المياه نحن نتطوع لتنظيفه يوميا وإعفاء هؤلاء القرويين منه. لم يكن يغير من حقيقة الأمر شيئا فإنهم سوف يبقون هم ونسائهم الأخريات أيضا مسخرين لأداء هذه الأعمال الحقيرة في قلعة الخوف ولن يوقف فعلنا عنهم سبيل الازدراء والاستكبار ولا فحش الألفاظ والاهانات وربما اشياء اكثر قبحا لم نرها ولا استبعد حصولها من هذه الضواري البشرية. كل ما سعينا إليه هو أبعاد المشهد عن نواظرنا رحمة بأنفسنا وليس بهم، فلم نكن في عوز وحاجة لمزيد من الالم والضيم اكثر مما توزع في أرجاء نفوسنا و جوانحنا.
كان من المتوقع أن تسير الأمور سلسة كما جرى الحال عليه فعلا في الايام الاولى وان نكبح مشاهد السخرية والاهانة لأننا نقوم بعمل تطوعي. الا انه في احد الايام جاء شاب نزق وبينما كنت احمل قطعة من قماش خرق مبللة لأمسح بها البلاط دفعني بعنف مصحوبا بلفظ سخيف يريد ان يكرر معي ما كان يفعله مع القرويين البسطاء، إلا انه فوجئ بردة الفعل مني، اذ استدرت اليه مباشرة ملقيا قطعة القماش المبلل على الأرض في غضب تظهر علامات الحدة عليَّ وزمجرت ببضع كلمات حادة متوعدا متقدما نحوه بانفعال شديد، ولحسن الحظ فقد كان باب الزنزانة مفتوحا وكل رفاقي يمكنهم التحرك بسهولة لنجدتي وبالفعل هذا ما كان، فعلا صراخ بيننا حاول يائسا ان يردعهم بالقوة فجرب رفع ساقه كي يركل احدهم ولكن رفيقي كان اسرع منه فامسك بطرف قدمه واطاح به على الاض فسحق كل جبروته بمنظر مضحك، فعمت الفوضى المكان وملأ الرعب قلب الحارس من حجم الغضب والاصرار الذي انفجر عليه من زملائي مما اضطره للهروب بعجل مستعينا بغيره من الحرس الذين هرعوا والصدمة على محياهم وجلين محاولين احتواء الموقف خشية التطور الى ما يعرضهم لمسائلة كبيرة، وبين لين من كلام وزعيق من اخر اعادونا الى الزنزانة التي لم نكن اصلا في وارد الخروج منها لأننا لم نفكر بذلك بالمرة بل كان حادثا عرضيا وليس خطة للتمرد والعصيان. بالطبع سارعوا لإبلاغ دائرة التحقيق كما عادتهم في الوشاية والسعي في كل صغيرة وكبيرة. لذا جاء موفد منها مستفهما، فقلنا له نحن سجناء سياسيون نقبل بالتحقيق الأمني رغم كل ما فيه لكن لا نقبل ان يعاملنا احد كعبيد لأننا لسنا كذلك. مر الأمر بسلام ويبدو أن تخفيف حكم الإعدام كان له اثر ايضا في ردة الفعل المتعقلة والهادئة من دائرة التحقيق وتفهم مفوض التحقيق (م.ع.) الامر، بل انه قال لنا كلمة كانت تحكي إقرارا منه بخطأ الحارس الذي لم نره ثانية وكانت تحمل رجاءً منه لنا
– مهلا، مهلا بالحرس انهم اخوانكم
كلمته زادتنا قوة الى صلابة عزيمتنا واصرارا على أن لا تثنينا أقسى المصاعب عن الفخر والاعتزاز بحريتنا وكبريائنا في كل آن ومكان.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب