ليلة صوفية
كما وعدتكم سابقا بالحديث عن أمر حصل متزامنا مع موعد المحاكمة الملغاة فقد جاء اليوم أوان الحديث عنه. سيرجع بنا ذلك الى اجواء من الجزع والإحباط كانت تسيطر علينا في ترقب المجهول هواجس تهشم كل صور العالم الخارجي التي بدأت تتلاشى وتغرق في يم النسيان. تورم رأسي لفرط ما كان يحمل من الوجع في ملاحقة القادم أصبح فارغا خاويا إلا منها. صارت الزنزانة لجة تبتلع جسدي الذي بدأ يذوي متسارعا يسابق الموت القادم تطرقه فظاعات ذهنية في كل آن. اصطناع الرزانة والجلد لم يقوى بالمرة على أن يواري القلق والرعب المتوقع قدومه عاجلا لذا صرت كما الاخرين على الارجح تنهش فيَّ كوابيس يقظة موحشة. إذا تملكك يقين من أن سيف سينحر اوداجك فإن حرارة حزه لأهون بكثير من انتظاره، ولشدة لوعتي في تلك الايام تمنيت من صميم قلبي أن لا تنزل بأحد ما وإن كان جلادي نفسه. إني لأعجز الآن عن بيان ما كابدت من الألم النفسي ومضاضة كل لحظة كانت تمر علي، كنت اكتم هذه المضاضة حبيسة في احشائي فتبالغ في ايلامي أكثر مما هي موجعة. وعلى الأغلب هذا ما كان يحصل لنا جميعا، لا ادري قد يكون أكثر حتى مما كنت اقاسيه واكابده، لم نتشارك ابداء الوجع بل حاولنا مواراته حتى لا نؤذي احدنا الاخر. صورة قاتمة لخروجنا من عنبر بارد في صناديق خشبية يحيط بها حرس قساة يحظرون البكاء ويمنعون العزاء ونواظر امهات ثكلى مغطاة بجلابيب سود ما حيين يدفعن بقتامتها الى كل الاشياء ويحيلهن ايمهن لياليا واباء لن يفارقهم عبوس ازلي ويستعيضون بالوجوم عن دموع لن يذرفوها كمدا الا في الخلوات. شقيقات يوصدن كل النوافذ والشبابيك لان دروب العشاق ستحول مسارها بعيدا عنهن وفرسان احلام سوف يستنكفون المرور من تحت نوافذهن، فقد صرن منتميات لطبقة الداليت المنبوذة ولا يجوز للأشراف مصاهرتها. سيخرج اشقاؤنا كل يوم الى اعمال جديدة على الارجح سوف تكون حقيرة بعد ان يطردوا من وظائفهم الحكومية يتحاشون نظرات الاتهام والريبة من الجيران وتتضاعف قتامة الدنيا امامهم حين يتحاشاهم صديق وقريب كان يرتاد مقاهي وملاهي ومعهم. لا يمكن ان اصف لكم جميع الصور الوخيمة، لان حتى مجرد كتابتها الان يقطعني بشفرات نصلها الحاد وارأف بكم ان تتخيلوها، المهم انها مرت علي وليتها لا تعاود المرور على اي انسان.
– هل تعرفون اني سمعت قولا دينيا مأثورا عن رجل مقدس دينيا انه قال: لو قرأت الفاتحة سبعين مرة على ميت ونهض بعدها فلن اعجب لذلك؟ سألنا وهو يحثنا على فعلها احد الذين كان معنا ممن كان يحفظ من الدين ويمارسه اكثر من الاخرين.
لا اخفي عليكم، ان عقلي لم يصدق ابدا ما يقوله، ولا كنت ادري بل ولا حتى الان هل فعلا هناك نقل بمثل هذا القول ام لا. ورغم ذلك لم انبس ببنت شفة اعتراضا ولا حتى جربت ابداءه بتقطيب وجه او رفع حاجب او نظرة شرزاء، لم اصدق لكن لم انكر ولربما لو قيل لي ذلك في غير تلك الساعة لكنت تفحصته وقلبته من كل الوجوه كعادتي المألوفة في النظر والتدقيق. نزل قوله كقارب نجاة لا مناص الا بالتمسك به وحل مثل غيث طمر ببرده لسعة نيران تكتوي بها حشاشتي. جلسنا مجتمعين هادئين بانكسار وكنت اسمع نشيج خفي ونحن نقرا السبعين بأخبات في صمت محكم وخبت معه الآهات كل الآهات. تنفست بعدها عبق عطر ملأ رئتي بهواء نقي اشبعني بفيض من شيء اجهله كانه نسيم ربيعي يهب ظهيرة يوم تموزي. انزوينا بعدها كل الى محله في مخدعنا المشترك وقد هدأت طباعنا كأننا قفلنا للتو من حلقة ذكر صوفي انهكنا فيها بالعشق.
هذا الذي حصل عشية اليوم الذي اقتادوا فيه بعضنا الى المحاكمة الملغاة التي تغير فيها الحكم من الاعدام الى السجن المؤبد فيما بعد. وعندما سمعت الضابط يقول: – خفيفة، ان شاء الله. السيد الرئيس امر بإيقاف الاعدامات، اندفعت تلك الليلة الصوفية في كياني ولم تخرج منه حتى الان.