9 أبريل، 2024 2:03 ص
Search
Close this search box.

من شقوق الظلام الحلقة التاسعة عشر

Facebook
Twitter
LinkedIn

دين وحرس
فجوة شاسعة بين بريق الشعارات وبهرجة الادعاءات التي كان يتظاهر بها الحزب الفاشي والمروجين له وبين واقع حاله وهذا ليس حكرا عليه، بل انه عين ما يفعله اصحاب الجمعيات والاحزاب وحال مناصريه الذين يقاتلون بشراسة لأجل السلطة وليس الفكرة، لذا يفعلوا كل ما في الوسع لبلوغ مأربهم الخبيثة. فترى لاجل هذا قادة تلك الجهات تزوي جانبا النظر في اخلاق اتباعها واصولهم ما بلغوا بها مآربها، بل انها لتستعملهم عن علم ودراية ولا توفر جهدا من حث لهم وتشجيع على ارتكاب كل السيئات ليرهبوا خصومهم ويختصروا المسالك لأمانيهم. وفي بعض الاحيان تبلغ تناقضاتهم من السخف حدا يثير الشفقة على اصحابها ويبعث على الضحك ويدعو للسخرية من عفن عقولهم. وهذا كان حال العاملين في هذه الاجهزة القمعية فقد كانوا سيئوا الطباع والاخلاق لا ينطقون الا سبا وشتائما كأنهم لم يعرفوا لغة غيرها منذ ان ولدوا فتراهم يجيدون الفاظها بطريقة فريدة لا تخطر على بال احد ولم اسمع بها من قبل بالطبع. كنت أتساءل ونفسي عندما اصغي لهذا السباب المقذع المتبادل بينهم، هل هؤلاء بعد العمل يعودون لبيوت يسكن فيها اطفال وترعاها زوجات فترق قلوبهم عليهم وتحنو، ام انهم يسكون صحراء قفر جردتهم من مشاعر واخلاق الانسانية؟ كانوا فاسدين لدرجة فظيعة واني لواثق من انهم كانوا فاسدين بالأصل وقضوا اعمارهم سعيا في البحث عن مهنة يمارسون فيها رذائلهم فبلغوا مرامهم المطلق في هذه الحرفة الفظيعة بقبحها. كانت الدسائس والوشايات والنميمة زادهم اليومي يتشاتمون على كل شيء، بل ولأجل لا شيء حتى انه تنشب المهاترات بينهم من اجل ريح تمر من فتحة باب موارب. كنت وانا اسمعهم واراهم على هذه الحال احسب أنهم خلقوا لأجل هذا وحسب. قساة غلاظ لحد مرعب الا اني لاحظت عليهم سلوكا غريبا حين كان يسمح لنا بمراجعة دورة المياه بعد كل وجبة طعام فقد كان يتناوب علينا حرس مخصصين لهذا العمل، ومن يأتي اليوم لا يأتي بالغد ولم تكن تتغير مجموعة الحرس وحسب بل تتغير الاخلاق معها ايضا، فمن كان يأتي بأسلوب جاف غليظ يشبعنا سبا ومهانة ويثير حنقنا يحل محله في اليوم التالي رجل آخر على النقيض من صاحبه متساهلا يسرد علينا احاديث وقصص وقعت له كأنه يسلينا ويروح عنا وتخال بعدها أنه لا ينتمي لهذا المكان لولا ملابسه والهراوة التي لا تفارق يده والسلاح المركون الى جنبه، ولولا اني كنت اعرف نفس هذا الرجل الوديع عندما كنت في الزنزانات الانفرادية وكيف كان يظهر انواع الفنون في الحاق الاذى لصدقت انه جاء لهذه المهنة بالخطأ. كان لهم وجهين متضادان بترتيب معد من رؤسائهم لترهيب السجناء من جهة واحتواء غيضهم من جهة اخرى. وكانوا لا يعيرون بالا لتخالف صورهم، اذ نفس هذا الحمل الوديع بعد حين يصبح ذئبا مفترسا والعكس بالعكس. لا من سبيل لتغيير النظرة المستقرة عليهم بالعموم انهم وحوش بمظاهر ادمية، الا ان الحق يقال ان واحدا منهم فقط كان يبدو فعلا انه جاء لهذه الوظيفة لسوء حظه وعلى الارجح بنصيحة حمقاء من صديق او قريب دفعته الى هذه المهنة الساقطة هربا من الحرب المشتعل اوارها حينها والتي كانت تلتهم اجساد الشباب ما ان يبلغوا الثامنة عشر. الا انه رغم ذلك كانت طبائع الاشخاص وامزجتهم الشتى وافكارهم الخاصة تنضح من تصرف خاص بكل احد منهم.

بعض منهم كان يظهر خلاعة ومجونا ولا يكف عن الحديث عن هذه الامور واخر كان يبدي تدينا ويحمل مسبحة طويلة كأنها تعود لدرويش مقيم في صومعة لفرط طولها الذي كان يتناسب تماما مع بلادة حيوانية وفظاظة يختص بهما بشكل متفرد. بداوة وقساوة تشع من محياه لكل من رآه وان لبرهة ومن لهجته لو سمعه يتلفظ ولو حتى بضع كلمات لا معنى لها. عيناه زائغتان بالخلقة قبيح المنظر بلا حاجة لهما وبمرافقتهما ازداد بشاعة، قوي قصير عريض الجثة لا يتوقف لسانه عن التسبيح بينما نحن نخرج لقضاء حاجتنا، وفي يوم ولسبب ما مفرط في السخافة الى الحد الذي لم اوفق لاسترجاعه من ذاكرتي رغم كل محاولاتي الكثيرة اليائسة للعثور عليه، وعلى كل حال لهذا السبب المفرط في التفاهة المجتمع مع تلك البلادة فهم هذا الحارس شيئا لا يمكن الا لمعتوه فائق الغباوة ان يفكر به وانفجر لذلك غضبه على احد السجناء واشبعه ضربا وشتما بطريقة تشبه وحش ضاري منفلت من عقاله. بالمقابل كان صاحبنا من النوع الفاشل جدا في اقناع اي احد في اي امر وان كان يملك كامل حريته، فكيف به الان تقلبه على البلاط ركلات من اقدام وحش اصم. لم نكن نملك خيارا لنصرته في هذه المواجهة غير المتكافئة ولو جربنا ذلك تهورا لكانت بلا ريب سوف تنقلب الى مجزرة. ومع ذلك لم نقدر على التقوقع بالسكوت فانبرى احدنا بطريقة رقيقة بعد ان لمس فتور ثورة هذا الدرويش الوحش فاقنعه بان الامر لا يعدو سوء فهم. حينها بدت على الحارس البدوي علامات تراجع وندم وانعكست علينا فرحا وبشرى بإنقاذ السجين المسكين من عقاب مجاني لا مبرر له بكل المقاييس، ولكن واجهتنا معضلة اشد. اذ قال لنا هذا الحارس الامني الورع:

– ادخلوا الزنزانة لا اقدر على السماح لكم بمراجعة دورة المياه الان.

بهتنا لذلك ولم نفهم بعد ان ظننا ان كل شيء قد عاد لمجراه، الا انه اردف بثقة ويقين رجل متدين غاية في الورع موضحا قراره الغريب

– لأني بينما كنت غاضبا اضرب صاحبكم، اقسمت يمينا ان لا تخرجوا لقضاء حاجتكم اليوم، ولذلك لا استطيع كسر يميني الان لأنه حرام.

تبادلنا نظرات تكتم قهقهة استغراب، ومن حينها سخرت ممن ينصتون خاشعين لتلاوة بورع بعد نهار طويل حرموا انفسهم فيه من لذائذ الشراب والطعام ليهبوا بعدها لفعل اشد الموبقات ومن اولئك الذين رأيتهم بعد ذلك من كوة الزنزانة يتحلقون على مائدة افطار ثم ينهضون مسرعين تملؤهم الحماسة لجلد امرؤ لا يعرفوه ولو قيض لهم افتراسه لفعلوا. من يومها سخرت ولم اندم على ذلك ابدا من دين قوم يجيز كل هذه المنكرات ولا يجيز كسر يمين على خلاء.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب