23 ديسمبر، 2024 6:48 ص

من شقوق الظلام (الحلقة الاولى)

من شقوق الظلام (الحلقة الاولى)

في قادم الايام سوف أنشر في حلقات كثيرة كتابا لم انشره حتى الان، لاني لم انتهي من كتابته اصلا وما زال يحتاج إلى تصحيح وتنقيح كثيرين. الكتاب يحكي قصتي في سجون النظام الدكتاتوري. لن يكون قصة تحكي عن ذاتي ابدا رغم ان اغلب ما فيه هو مشاهداتي الخاصة وقليل مما سمعته. لكن كل ما سوف ارويه هو حقيقة واقعة وليست خيالا، ابدا لا حيز فيه للافتراض ولا للمبالغة بالمطلق بل من المؤكد اني سوف افشل في تصوير المشهد كما وقع وسوف انقل صورة باهتة عنه. اريد لهذا الكتاب أن يكون جزءا من مستند يؤرخ ما جري في بلدي ويجري لعل الغافلين ينتبهوا ومن يجهل يعلم. قد يأتي يوم يطبع فيه الكتاب وينشر، لكني وجدت ان هذا اليوم قد يتأخر فلذا قررت نشره على الشبكة العنكبوتية. لو تسنى لي نشره يوما ما فسيكون أمرا جيدا وان لم افعل وأراد غيري فعل ذلك فليفعل لا مانع لدي البتة خصوصا لو منحني نسخة منه او اكثر. لن أمنع أحدا من نشره ولا من إعادة نشر ما سوف اكتب ولو اراد الاقتباس ايضا منه فله ذلك أيضا فحقوق الطبع عندي غير محفوظة. الا اني اطالبه بان يكون امينا بالاشارة الى المصدر، لأنه ليس من المعقول أن نحارب الرذيلة والظلم بالسرقة والزيف. سميت الكتاب (من شقوق الظلام) لأن الناظر من الشقوق سوف يرى بعض ما خلف الجدار الذي عشت فيه لما يقارب العشر سنوات ولكن لن يكون بمقدوره ابدا رؤية ما حصل فعلا وكيف له أن يدرك ما جرى هناك إذا كان ما خلف الجدار المتشقق ظلام وحسب.

ليس في نيتي أبدا بعد هذه التجربة والسنوات الطويلة بان اكتب او ان يكون كتابي فرصة لتحفيز روح الانتقام. ابدا، بل إني بعد تجربتي هذه عرفت القيمة النفيسة لأن يتجرد المرء من مشاعر الضغينة ويتخلص من كل الانتماءات السخيفة التي تخرجه من انسانيته وكيف عليه أن يحب كل الناس حتى عدوه. اتمنى لو يكون أول قارئ لما اكتبه هو جلادي قبل غيره ليشعر بما فعل فلا يعاود ذلك ثانية لان احلى امنية لي هي ان تنفك عداوتنا ونرجع اصدقاء في الإنسانية كما كنا يوم جئنا لهذه الدنيا فلنخرج منها كذلك. وامنيتي المخلصة ايضا ان لا يتعرض أي إنسان لما حصل لي لأنه كان رهيبا جدا لدرجة لا تقدر كل الكلمات ان تجيد وصفه ولكن ليس هي القسوة المادية وحسب، بل كم كان هو قاسيا وساحقا ذلك الشعور بأن من حولك غرباء عنك في كل شيء وأنك تعيش وحيدا تخاف ان يفترسك أحدهم لأنك فقط تريد أن تعيش بحرية وسلام وتريد ان تكون انسانا كما هو انت فعلا.

ملاحظات مهمة: القصة ستكون خالية من أسماء الاماكن والاشخاص تماما حتى من اسمي وفقط ترد بإشارات احيانا و الأحرف الأولى لأسماء الجلادين تارة أخرى ولن اذكر اسماء الضحايا، لأنها ليست قضية خاصة بل عامة ولا انوي إدانة الأشخاص ابدا بل اريد ادانة و استقباح السلوك الذي يتصفون به. ولا اريد ان تكون سبب كراهية وبغض وانتقام بقدر ما اريد ان تكون سببا لندرك ما جرى حتى لا يتكرر ثانية وثالثة ورابعة كما يجري. أما الضحايا ذكر ما جرى لهم هو الذي سيخلدهم ولن يفعل ذلك ذكر اسمائهم.
لن ارد على اي تعليق ابدا ليس استعلاءاً، لكن القصص عندما تكتب حينها للقارئ أن يفهم ما يريد منها وأن ينتقد ما يشاء منها ولكن ليس له ابدا ان يقسر الكاتب على تغيير مشاعره واحاسيسه أو آرائه. ما اكتبه هو نزيف وليس حبرا، ترددت كثيرا في قرار نشره لأنه يوجعني أكثر مما سيتوجع
البعض منه او يتخيل وجعه الذي اعانيه. فلا توجعوني مرتين رجاءً

بداية النص
من شقوق الظلام
( قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد)

إهداء

الى من وقف في الظلام منتصبا وخرج الى النور ممتدا
الى من استطال به الكثير ولم تستطل به الدنيا
الى جلادي الذي كشف لي معنى الحرية والحياة
الى أصحاب الزنزانة الذين خلدوا شهد المعاناة
وأيضا للذين لم يخلدوها
الى زوجتي ,أولادي وأهلي بالأخص والديَّ
الذين عانوا اكثر من غيرهم من جراء مغامراتي وتطلعاتي التي لم تصل المرفأ الاخير بل حتى لم يلح لها لليوم
لكل هؤلاء ولكم ابسط مائدتي
وبكل صدق
ادعوهم لعشائي الذي أرجو أن لا يكون الأخير

زفرة

في عتمة داكنة مثل ظلمة ليل شتاء شمالي
حيث تغور النجوم بعيدا ولا نور
في وحدة قاسية مثل غربة ذرة غبار في بحر متلاطم
من زمن يكاد المنادى يعلن فيه بخيلاء المنتصر انكفاء كل الوعود الإلهية مبشرا بهزيمة الطين أمام النار
من وسط كل هذا المح في داخلي بقعة مضيئة يكاد ينشق منها نور سيضئن كل هذا الليل ويرسم فجرا سرمديا
منها سيخرج طائر عشقي للشمس ولن تخيفني كثرة لسعات حبها التي تحيلني رمادا ينفجر نافورة في تيه صحراء قومي
ليعيد خلقي من جديد
سأجري مثل خيول برية في بيداء لا أمد لها ولا حد
وسأنزف حبرا يروي حكاية بعيدة كل البعد عن الذات
لكنها ستروي حكاية ذاتيين لا وحدة بينهما إلا ذاك الأب الدارويني
ما بعد هذه الأسطر ليس حكاية شخصية
بل سيرة زمن كاد أن يهرس شعبا
بين سندان صمت ضمير اشك في صحوته ولو بعد حين
ومطرقة غريزة منفلتة من عنانها فغدت بحال اقل ما قيل فيها وحشية

اليوم الأول
في ظهيرة نهاية أسبوع من صيف قائظ، وفي مقعد خلفي لسيارة ايطالية سرقت لون السماء، هناك ولدت حكايتي.
عصبت عيناي وانزل راسي الى الأسفل وسارت بي مطية البأس الشديد الى حيث لا ادري من الأمكنة، سوى عنوان طالما اخترعته مخيلتي، الى بيت قابيل قاتل جدي الشهيد ببراءته.
قلدوني أساورا ولكن قبلها ارجعوا المعصمين الى ما وراء ظهري، طلبوا مني أن أسير على هدى كلماتهم،
يمينا..يسارا…اخفض رأسك
لا اعلم حتى اليوم هل كانت فعلا تدلني على طريق ملتو لا زلت اجهل أبعاده، أم كانت بداية سخرية سأتجرع مرارتها لما يقارب كل العشر سنوات المقبلة، وقد كانت كذلك. انتهى المسار بي الى حجرة لا زلت اعرف كل تفاصيلها واستطيع وصفها بمنتهى الدقة كما اني لا زلت اجهلها ايضا بالمطلق فهي لم تكن سوى ظلام دامس ومقعد. لم ينقض الكثير من الزمن الثقيل حتى غطس وجهي في سيل صفعات توالت شلالا غزيرا وغرقت في وحلها حتى بعد ان توقفت.
اخترق سمعي صراخ من بدأت حكايته قبلي، صوت الألم الخارج منه كان يستقر في جسدي العشريني، وينبعث خوفا لمست ارتجافه في ثيابي المبتلة بعرق فزع المواجهة الأولى.
سحبت الى غرفة باردة بكل ما فيها وأجلست على كرسي حديدي، رُفعت العصابة عن عيني لأرى قابيل منتصبا امامي لأول مرة وبزي عسكري بنجمة يتيمة قد رسمت على كتفه. هذه المرة هكذا وساراه كالشيطان كل مرة بهيئة وصورة اخرى. صور سوف تتكاثر بعدها مثل قنبلة انشطارية ولا تقبل ان تتوقف عن التزايد حتى اليوم ولن يصرع الشيطان الا في وقت معلوم حين نرحل عن داره الى ارض ليس فيها غريزة. ضحك ساخرا وهو يشير الى هيئتي المبعثرة ولمح بكلمات مقتضبة الى تهمة تنتظرني. تهمة ترحل بصاحبها سريعا الى موت شاع مثل طاعون اسود بين الهامسين بحلم الحرية. لحظات قليلة مرت بعد بدء هذه المقابلة الاولى ليعلوني نفس الكرسي الذي كنت اجلس عليه يحمله هذا الضابط الصغير وبدأ يوزعه على جسمي النحيل.
وفي تلك اللحظة بدأت اجمع أجزائي التي فرقتها مفاجأة الوهلة الأولى. نفيت كل تهمة القاها علي. لم يكن الأمر يعنيه كثيرا، إذ كان كل هذا ليس الا ممرا قصيرا الى أماكن أخرى سأتنقل بينها وسأغيرها مثل أحذية قديمة متهرئة.
وقبل أن يكمل عقرب الدقائق دورة واحدة على ما قدرته حينها، حتى اقتادتني زنود جدد هذه المرة بعصابة سوداء حجبت الرؤية عني بالمرة لتوصلني الى بناية عالية لأننا تسلقنا طبقاتها بمصعد كهربائي. العصابة التي كانت تحجب بصري ظلت متسمرة في مكانها هذه المرة كما هو الحديد الذي يجمع ذراعي وقيدت به الى عمود أو شيء يشبهه، لا ادري فلم يتسن لي ان اراه ابدا ولا حتى لوهلة واحدة. حجب بصري لكن لم يمنعني ذلك من تحديد الوقت بدقة، انه ما بعد الساعة الرابعة عصرا دلني عليه ذاك الصوت الاسمر العندليبي يشدو مغنيا في فلم الاسبوع ما بعد ظهيرة كل جمعة كالعادة التي جرت حينها. كان يشدو بألم رقيق بفلسفة إيليا أبو ماضي ويفوح عطره الموجع من تلفاز قريب مرددا
أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير
أين جهلي ومزاحي وأنا غض غرير
أين أحلامي وكنت كيفما سرت تسير
كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت
لست ادري

انتابني وقتها شعور عميق استقر راسخا في داخلي، لا زلت أتلمسه حتى اليوم في حناياي، بان سنوات من الضياع تنتظرني.