23 ديسمبر، 2024 6:03 ص

من سرق الموازنة أيها المواطن؟

من سرق الموازنة أيها المواطن؟

رغم الميزانيات الهائلة التي خططت لها الحكومات المتعاقبة على حكم العراق خلال السنوات الماضية التي تلت سقوط نظام الرئيس صدام في 2003 واقرت من خلال مجلس النواب العراقي والتي تجاوزت بلايين الدولارات، إلا ان اوضاع العراق الاقتصادية والمعاشية ظلت تراوح مكانها مع تردي واضح في مستوى الخدمات العامة وخصوصاً في مجال الطاقة الكهربائية ومياه الشرب والبنى التحية، ومع تجاوز موازنة هذا العام 2015 ال 125 ترليون دينار عراقي أي ما يقارب 100 مليار دولار، إلا أن الحال ظل كما هو إن لم يتردى نحو الأسوء، مع الاستقطاعات الضريبية على رواتب الموظفين والمتقاعدين من خلال فرض قانون ضريبة الادخار على ما يقارب ال 3مليون موظف عراقي اي ما نسبته 15 مليون مواطن عراقي، وفرض الرسوم الضريبية على المنتجات المستوردة وتعريفة الاتصالات والانترنت والماء والكهرباء وأجور السفر، والخدمات، بالاضافة إلى ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية والاستهلاكية، ويبدو ان الموازنة التي تقر أولا في ديوان مجلس الوزراء الذي يتكون من مختلف الأحزاب المتقاسمة للسلطة يأخذ بعين الاعتبار أولا حساب النفقات العامة لتلك الأحزاب من خلال ممثليهم في مجلس الوزراء ومجلس النواب، وذلك يبدو جلياً من تفحص الميزانيات الهائلة لمجلس الوزراء ومجلس النواب ومكاتب ديوان الرئاسة، فهذه الهيئات الثلاث تنال لوحدها ما مقداره 51% من الموازنة العامة والتي هي في أغلبها مصروفات ورواتب وامتيازات شخصية، مثل الرواتب الشخصية ورواتب الحمايات والموظفين والإيفادات والوقود والإتصالات والملابس وإيجارات السكن، مع اقتطاع 17% من الموازنة لإقليم كوردستان، ونسبة 23% للدفاع والأمن، إذن ماذا يتبقى للمواطن وبرامج البناء والتنمية؟ كل الذي يتبقى للمواطن المسكين هو العجز الحاصل بالميزانية نتيجة الفرق بين الإيرادات والانفاق والذي تبلغ ما قيمته 25 ترليون دينار.

لكن الغريب في رسم هذه الموازنات واقرارها انها تأتي دائما وفق رغبات المشرعين دون الالتفات إلى الغايات الحقيقية التي تُسن من اجلها هذه القوانين والتشريعات، وتخصص لها أموال الموزانات من خزينة وقوت الشعب، ففي الأعوام 2004 و2005 كانت موازنة الدولة لاتتجاوز ال 60 مليار دولار على وفق احتساب سعر برميل النفط كمورد رئيسي للموازنة ب55 دولار، لكن الموازنة في 2014 والتي تجاوزت ال150 مليار دولار والتي لم تقر رسمياً، وكذلك موازنة هذا العام احتسبت ايضا وفق سعر برميل النفط بما معدله 55 دولا ر للبرميل الواحد، ومع ذلك تم اتخاذ حزمة من الاجراءات التقشفية كان المواطن هو الضحية الوحيد فيها، من ناحية تقديم الخدمات وكذلك تدني المستوى المعاشي، مع تخفيض الأموال المخصصة للبطاقة التمونية من 4مليار دولار إلى 2،5 مليار دولار.

ليس من شك ان ماحصل ويحصل من اهدار متعمد لأموال العراق يجري بصورة مدروسة ومتقنة لسرقة أكبر ما يمكن سرقته من هذه الأموال الطائلة من قبل أحزاب تحولت مع مرور الزمن إلى مافيات وعصابات نهب وسرقة سلطوية، وإلا فأين هيئات النزاهة ومكاتب المفتش العام والرقابة المالية، التي هي الأخرى أثقلت ميزانيات الدولة بمدرائها وموظفيها ومكاتبها وايفاداتها، من كشف ملفات الفساد التي كشفت عنها واقرتها الهيئات الدولية في منظمات الشفافية والنزاهة، والتي أدرجت العراق كواحد من الدول المتقدمة في نسبة الفساد والتحايل على المال العام وسرقته، من خلال مشاريع وهمية بلغت نسبة أموالها المسروقة ما يقارب 300 مليار دولار خلال الخمس سنوات الأخيرة فقط، والملفت للنظر في موازنة هذا العام إنه وبعد خمسة أشهر فقط من اقرارها، أعلنت محافظة بغداد العاصمة وبصورة رسمية وعلى لسان محافظ بغداد افلاس ميزانيتها، لحقتها فيما بعد محافظة البصرة، حين طلبت من الحكومة المركزية الاسراع بمساعدتها بعد عجزها عن الإيفاء بالتزامتها مع المتعاقدين في مشاريع الخدمات والتمنية في المحافظة! شيء لا يثير الاستغراب والتعجب فقط، بقدر ما يثير التساؤل عن حجم السرقات التي تحدث في العراق، ومن المسؤول عنها بعد عرفنا ضحيتها المباشرة وهو المواطن، وهل سيبقى هذا الشعب مطية الأحزاب والمافيات الفاسدة التي تجره الى الهاوية، بعد ان تعلن نهائيا افلاس خزينة الدولة خلال الأيام القادمة، خصوصا وهي في طريقها الى رهن الاحتياطي النفطي العراقي للشركات العالمية النفطية مقابل ادامة زخم السرقات، إن العراق وقع بعد 2003 ضحية سماسرة ولصوص دوليين وجدوا ظالتهم في ميزانيات هائلة ليس عليها رقيب غيرهم، فباشروا منذ الأيام الأولى بسرقاتهم الكبيرة لأموال العراق كما حدث في حكومة أياد علاوي حين سرقت المليارات في وزارات الدفاع التي كان يقودها حازم الشعلان المتهم بسرقة اكثر من ملياري دولار وكذلك وزرير الكهرباء أيهم السامرائي المتهم بما سرقه من مليارات وتهريبه من قبل القوات الأامريكية من مركز الاعتقال في الكرادة الى الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة، لتأخذ السرقات شكل مقنن من خلال استحداث المناصب البروتوكولية الزائدة مثل ثلاث نواب لرئيس الجمهورية وثلاث نواب لرئيس الوزراء وثلاث نواب لرئيس مجلس النواب، مع كارتل عظيم من الموظفين والسكرتاريات والدرجات الخاصة والمدراء العامين، وارتال من الحمايات والسيارات المضادة للرصاص، وامتيازات ليس لها مثيل في تأريخ العراق، حين وصل راتب عضو مجلس النواب إلى مايقارب ال 60 مليون دينار مع احتساب الاضافات في مجال السكن والقرطاسية والملابس والغذاء والوقد والاتصالات، ورواتب الحماية الوهميين الذي يبلغون 30 حارس شخصي لكل نائب لايتم الاستعانة إلا بثلاثة أو أربعة منهم في أغلب الأحيان في حين ان الأموال المخصصة لهم تذهب في جيب النائب المحترم، وأصبحت عمليات السرقة والإفساد العام بأموال الشعب تزكم الأنوف مع نشر فضائحها بوسائل الاعلام المرئية والمقروئة والمسموعة، حين يكلف اعادة ترميم قصر لنائب رئيس الجمهورية أكثر من ملياري دولار، وتأثيث مكتب لأحد نواب رئيس الوزراء يكلف 20 مليار دينار، وسرقة مليار دولار من أموال مخصصة للنازحين من قبل مسؤول مكلف بهذا الشأن، ويبدو ان ليس من حل لا قريب ولا بعيد لهذه الظاهرة التي أخذت تمتد وتتوسع لتصيب كل مفاصل الدولة بالشلل مع تضخم ملحوظ في جيوب وبطون المسؤولين العراقين.

المواطن العراقي اليوم وبما عرف عنه من انه(مفتح باللبن) كما كان يقال عنه، يعرف من هم اللصوص الذين يسرقون قوت يومه وعياله، تارة باسم الدين وتارة باسم الوطنية وتارة باسم الطائفة والقومية، لكنه يبدو بلا حول ولاقوة وتلك الطامة الكبرى، انه يجلس على تلال فقره وأوجاعه وأمراضه وافلاسه، وينظر من حوله على من انتخبهم ووضع ثقته بهم وهم بقودونه الى مصير مجهول، من البؤس والفاقة والحرمان، دون أن يحرك ساكنا وكأنه قرر الاستسلام نهائيا لجوقة اللصوص والمافيات الوطنية لتنهش بلحمه ولحم ابنائه، وتمتص ما تبقى من دمه، ليزداوا غنى ويزداد هو فقراً وقهراً، وسيستمر هذا الحال إذا لم يستفيق المواطن المغلوب على أمره، ويطلق صيحته ويشهر سلاحه، سلاح الوطنية والعدالة والحق ويرمي بهؤلاء إلى مزبلة التأريخ، وبئس المصير.