5 نوفمبر، 2024 6:32 م
Search
Close this search box.

من ذاكرة كركوك : (( دللي وزير )) والرصافي

من ذاكرة كركوك : (( دللي وزير )) والرصافي

لحد الساعة وانا تجاوزت عتبة الخمسين من العمر ، لم استطع فك شفرة مستودع كبير من الاسرار ، أسمه ( دللي وزير ) المرأة الغامضة المبهمة ، التي كانت تسكن عند منعطف زقاقنا في قلعة كركوك ، في الستينيات وحتى بواكير الثمانينيات من القرن الفائت ..

اقاويل وشائعات كثيرة كانت تلف حياة المرأة الخمسينية ( دللي وزير ) ، وتضفى عليها هالة من الخوف في نفوسنا نحن صبية وأطفال تلك الحقبة من الزمن الجميل ، ثّم من يقول انها تحبس جنيا  في سارية بيتها الخرب ، وهو يأتمر بأمرها ، ولا يعصي لها أمرا ، وقالوا انها تطلقه في الليل كي يخطف الاطفال ويقتلع عيونهم ،،

لم ندر انها شائعات يتعمد أهلنا أطلاقها لأخافتنا ، كي نعود الى بيوتنا مع غروب الشمس ولا نبقى نلعب في الزقاق ،

عالم من الغرابة المشوبة بالواقع ، والاساطير المأطرة بالحقائق هو عالم قلعة كركوك يومذاك .

 كل الحواري والازقة في محلتنا كانت مرتعا للعبنا الطفولي ، وساحة مفتوحة لنا ، كي نفرغ شحنات شقاوتنا وجنونا فيها ، الا زقاق ( دللي وزير ) فهو خط احمر ، لا يمكن ان ننتهك حرمته ،أو نتجاوزه ، والا فأن سيل الشتائم والسباب ، هو ما نحصل عليه أن مررنا من عتبة بابها ..

في أماسي  الصيف كانت ( دللي وزير ) تذرع سطح منزلها جيئة وذهابا ، وهي تزمجر تارة ، وتدردم تارة أخرى ، واحيانا تزعق ، وتطلق صيحات اشبه بعواء الذئب ،

 قيل أنها تناجي طيف أبيها الذي قتلته رصاصة جندي بريطاني ابان انتفاضة ( كاور باغي ) في عام 1946 ، وقيل أيضا ان طيف حبيبها الذي هجرها ، يتراّى لها كل مساء ، فيثير فيها مكامن الجنون والمس الشيطاني .!

ذات أصيل حزيراني ، تجمهر الناس  قبالة منزل ( دللي وزير) ، وهي تسب  وتشتم افرادا من الشرطة ومعهم مختار المحلة ، الذين جاؤوا يريدون اخذها للتسجيل في مركز محو الامية القريب من بوابة ( يدي قزلار ) والذي افتتح مؤخرا لتعليم النسوة الأميات من ساكنات المحلة ، مباديء القراءة والكتابة ضمن حملة معروفة اطلقتها السلطات وقتذاك لهذا الغرض ، ووقعت المفاجئة على رؤوس سكان المحلة وقوع الصاعقة ، حين عادت ( دللي وزير ) بعد ساعة او بعض ساعة من ذلك الحدث ، وهي تتبختر في مشيها وتجر أذيال عبائتها  كأنها ربحت معركة .!

أتعلمون ماذا حدث في  مركز محو الامية ؟؟

أخذت ( دللي وزير ) طبشورة وراحت تخط على السبورة بخط (النسخ) قصيدة ( لقيتها ليتني ما كنت القاها ) للرصافي فكتبت بخط لا يدانيها خط اي من معلمات المركز ولا مديرته :

لَقِيتُها لَيْتَنِـي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَـا

                   تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا

 

أَثْوَابُـهَا رَثَّـةٌ والرِّجْلُ حَافِيَـةٌ

                   وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَـا

بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا

                   وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَـا

وأسترسلت تخط بقية ابيات القصيدة ، في مشهد أذهل جميع من كان في المركز ، حتى أتت الى اخر بيت من القصيدة فأكملته بخط ( الرقعة ) لتثبت لهم ، أنها ليست مجنونة ولا بها مس من الجن او الشيطان ،فكتبت :

قَدْ فَاتَهَا النُّطْقُ كَالعَجْمَاءِ، أَرْحَمُهَـا

                   وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيَّ السُّقْمِ آذَاهَـا

بعد تلك الواقعة الغريبة تغيرت نظرة الناس اليها ، حتى سماها بعضهم

فريدة العصر ونابغة الدهر . ولم يعد أسمها يوحي الى الغموض والابهام .

الم اقل اليكم في أول الكلام أن عالم قلعة كركوك كان عالما من الغرابة المشوبة بالواقع .؟!!!

أحدث المقالات

أحدث المقالات