23 ديسمبر، 2024 3:58 ص

لن تكون ذاكرة الحرب متسلسلة كما هي دائما ،وانما ستكون على شكل حدث وردة فعل ، لكل  حادث منها سبب وظرف ، حتمت ان تكون ردة فعل الأشخاص  بالمستوى الذي حصل في ساعته ولحظته،  سنتطرق لجميع مراحل الحرب ان كان ما يتعلق منها بالحرب العراقية الايرانية او ما يتعلق بحرب الكويت وما تلاها وستكون مما عاصرته خلال فترة عملي كضابط ركن في الاستخبارات العسكرية العامة.
ففي غمرة العمل وتسارعه للسيطرة على ما تبقى من العراق وأمنه بعد حرب الكويت واحداث الجنوب ١٩٩١ ، و بصورة مفاجئة امر القائد العام للقوات المسلحة ان يكون الفريق الركن صابر عبد العزيز الدوري قائدا لمقر العمليات او بصورة ادق مسؤولا مباشرا عن فتح مقر متقدم للقيادة العامة للقوات المسلحة ترتبط به جميع مقرات القيادة العامة الاخرى المنتشرة في جنوب وشمال العراق باعتباره عضوا في القيادة العامة للقوات المسلحة ليكون الموجه وحلقة الوصل بين القائد العام للقوات المسلحة وبقية أعضاء القيادة العامة للقوات المسلحة  ، فوقع على عاتق الاستخبارات العسكرية العامة ضباطا ومراتب مسؤولية تاريخية عظيمة حيث وجب عليها ان تقوم بدور وزارة الدفاع والأركان العامة التي غابت عن المشهد بسبب قطع الطرق وتواجد جميع أركانها في مدينة البصرة ، باستثناء مدير الاستخبارات الذي التحق ببغداد مغادرا المقر المتقدم في مدينة البصرة قبل بدء الهجوم البري للحلفاء بيومين بأمر من  القائد العام لاستشارته في أمور العمليات والمعلومات كما صرح الرئيس بتسجيل صوتي احتفظ بنسخة منه.

بعد الانسحاب وظروف الأحداث المعروفة لم يكن هناك أدنى مقومات للنصر ، فلا توجد بين أيدينا الا وحدات صغيره من الحرس الجمهوري الخاص وضباط مقر المديرية المنتشرين في عدة مقرات بديلة داخل بغداد ويمارسون واجباتهم الاعتيادية ، الا ان إيمان المقر بوحدة العراق ، وضرورة اعادة الامن لجميع محافظاته أعطى دافعا كبيرا لكل العاملين فيه ، وكأن كل العراق بتاريخه وحاضره وقوته متواجدة في هذا المقر
كان لبعثرة القوات المنتشرة جنوبا ، وتعذر وصول اغلبها الى أماكن انفتاحها الجديدة التي حددتها خطة الانسحاب من الكويت بدقة ، والتي بقت الاستخبارات العسكرية متمثلة بمديرها العام ف ر صابر الدوري ومعاونه لشؤون الاستخبارات كافه اللواء الشهيد سنان ابو گلل يحاولون بشتى الطرق المتاحه مع القيادة القبول بها منذ لحظة دخول الكويت ، وقبلها ( قبل تنفيذ قرار استعادة الكويت ) ،  بتقارير استخبارات وتقدير موقف عملياتي عما سيواجه العراق في حال اقدامنا على استعادة الكويت ، وبعدها ، في حال استمرارنا في البقاء هناك ، ولكن ما شاء الله كان ، فأعاد مدير الاستخبارات العسكرية المحاولة من جديد مستغلا تكليفه بالمهام الجديدة  وتواجده في بغداد بتقديم اقتراح مباشر وصريح للقائد العام  للقوات المسلحة بقبول الانسحاب للحفاظ على ما تبقى من قواتنا المسلحة ولملمة اثار العدوان ، فصدر امر الانسحاب وقام المدير العام بنفسه بأصدار الامر الأولي للانسحاب الى المقر المتقدم في البصرة واعدت خطة الانسحاب بمعاونة  الفريق الركن عبد الستار المعيني والفريق الركن محمد عبد القادر الذي حملها من مقرنا باليد لتسليمها لوزير الدفاع الفريق اول الركن سعدي طعمة عباس الذي يتواجد هناك مع الفريق اول الركن حسين رشيد رئيس اركان الجيش ، ومعاونه للعمليات الفريق اول الركن سلطان هاشم .
نفذ الانسحاب بعشوائية من قبل القادة والآمرين بسبب ظروف القصف الجوي الذي خرقه الأمريكان بعد تثبيت  وقف إطلاق النار الذي تم في اجتماع الخيمة ( خيمة صفوان )  .
  تكاملت خطوط المواصلات والخرائط وضباط الارتباط في غضون ساعات في مقر العمليات و بهمة الرجال في مركز القيادة العامة للقوات المسلحة الذي فتح في مقر مديرية الاستخبارات العسكرية العامة تمكنا من ادارة دفة المواجهه بأعلى مستويات الدقة والاحتراف وكان همنا الوحيد الحفاظ على ارواح وممتلكات الناس وفرض الامن باقصى سرعة لم تطول الا لأسابيع قليله
والتحق بالمقر  الفريق الطيار الحكم حسن علي مدير طيران الجيش ،واللواء الركن خالد حسين مدير التخطيط ومجموعة من ضباط ركن الاستخبارات العسكرية بناءا على امر مدير الاستخبارات العسكرية العامة ، وكان لكاتب السطور شرف المشاركة فيه وجزءا من يومياته وأصبح احد شهود العصر على تلك الايام وعلى ذلك المكتب الصغير الذي تمكن من اعادة الحياة الى جميع مفاصل و وزارات الدولة المدنية والعسكرية بقيادة مدير الاستخبارات وضباطه وإشراف مباشر من الرئيس القائد العام للقوات المسلحة بتأمين احتياجاتها  بعد سقوط اغلب محافظات الجنوب والشمال
فتصدى أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى لشرف المسؤولية الكبيرة بإدارة وزارات مدنية وتأمين متطلبات الحياة للمواطنين وهي خارج اختصاصهم ، وقد يسأل بعض الإخوة كيف تمكن عدد محدود من الضباط بإدارة دفة الدولة في ذلك الظرف العصيب فأجيب : بان هذا المقر خول صلاحية وزارات الدولة كافة وسخرت له  كافة الإمكانيات الخدمية  لإعادة الامن والحياة لمحافظات الجنوب ، فتجلت قصص البطولة والإيثار بمعانيها الكبيرة ، حيث توجب على ضباط المديرية قيادة ناقلة دبابات من هنا وتحميل مواد غذائية من هناك ونقلها الى المحافظات المطهرة ،  والبحث عن إطلاقات نارية في احد مخازن العتاد المتروكة لإدامه المعركة،  وتعدت البطولات جميع المقاييس ، ليذهب بعض ضباط ركن الاستخبارات الى  الأرض الحرام مستغلين الظروف الجوية الغير مستقرة لسحب قطع من سلاح تركت تحت القصف الجوي هناك ، تكامل كل شئ باقل الإمكانيات وكان لدور المعاونية الفنية ومسؤولها اللواء ع،ن وضباطه ومراتبه الدور الكبير فقد واصلوا الليل بالنهار لديمومة رفد المقر بسيل المعلومات من جميع محافظات العراق وارسال الأوامر والتوجيهات للقطعات التي اخذت بالتكامل
( برقية رتل تطهير كربلاء )
جاءت برقية رتل كربلاء تزف بشرى تحريرها معنونه ( من ابي علي الى العم الكبير ) وحسب السياق تعبر هذه البرقيات كونها مرسلة من أعضاء القيادة السياسية الى العقيد ارشد ياسين مرافق القائد العام  الذي نسب الى  مقرنا كضابط ارتباط بين المقر والقائد العام ، وعند ابلاغه من قبل الفريق الحكم رحمه الله بنص البرقية ، تسلل وفيق السامرائي ( معاون مدير الاستخبارات لشؤون ايران والشمال ) قريبا من الفريق الحكم بأسلوبه المعروف قائلا له : سيدي قل للسيد العقيد ان الشباب وجدوا في كربلاء ان ( زمال ) حمارا  مدفون في قبر الحسين! وهم يزورونه منذ الف عام ! التفت الفريق الحكم صوب الفريق صابر باعتبار انه الاجدر برده ، فنادى  على وفيق السامرائي بعصبيه قائلا ( وفيق … ماذا قلت !؟ ما هذه الخربطات !؟ وعن من تتحدث هكذا ؟! اخرج من الغرفة حالا لا اريد رؤيتك ) ، ارتعد وفيق وابتسم ابتسامته الصفراء معتذرا وقبل مغادرته الغرفه صرخ به الفريق صابر الدوري مرة اخرى قائلا (  هل تتوقع ان يرضى عليك الرئيس  ان سمع خربطاتك من العقيد ارشد ؟ وصلت بك الحالة لان تنال من احفاد الرسول لارضاءه ! السيد الرئيس لا ينطق اسم الحسين الا وسبقه بجدي الحسين فلا تتجاوز على الصحابة بحضورنا و لا تعيد خربطاتك هذه مرة اخرى ) وخرج يلوي رقبته بخبث .
هذه الحادثة كنت شاهدا عليها مع الفريق الحكم رحمه الله واللواء خالد حسين و( العقيد حمود السامرائي ) مسؤول سجل الحوادث اثناء الأحداث والذي كتب تعليقا في صفحة الجيش العراقي حول مقال السيد الخوئي بعد سنين من مناشدات لضباط المديرية بتوثيق ما حدث ، واتمنى ان يدلي بشهادته هنا ايضا هو وضباط المقر الذين كان لهم شرف المشاركة في اعادة الحياة الطبيعية الى مجراها بعد اقل من ثلاث أسابيع .