18 ديسمبر، 2024 8:10 م

من دولة الأيديولوجيا إلى الطبقية والمصلحية: لماذا فشلت الأحزاب الإسلامية؟

من دولة الأيديولوجيا إلى الطبقية والمصلحية: لماذا فشلت الأحزاب الإسلامية؟

من خلال استعراض التاريخ لم تكن السياسة بعيدة عن الدين، فإذا كانت التيارات اليمينية في أوروبا اعلامها لا تخلو من الصليب، فإن المرجعية التاريخيّة للمشروع الإسلامي السياسي يندرج في موقف (جمال الدين الأفغانيّ) الذي طالب السلطان العثماني حينها بمشروعية الجامعة الإسلامية، تلك الجامعة التي فرض لها أن تراعي شؤون المسلمين في العالم الإسلامي، وقد كلفت هذه الفكرة حياة صاحبها، بعد أن رفض الأفغاني التنازل عن هذه الفكرة والرضوخ للتهديدات السلطانية، ثم تجددت الفكرة في قالب جديد على يد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وزعيمها، لاسيما أن تنظيم الإخوان المسلمين المرجع الفكري والبنيوي لكل جماعات وحركات الإسلام السياسي بشقيها (السُني والشيعي). وفي قراءة لمأزِق الأيديولوجية الإسلاموية في كافة الدول العربية بلا استثناء أثبتت التجربة تفكك الأيديولوجيا لتكشف عما وراءها من تناقضات طبقية ومصلحية هائلة أكبر من أن تستر خلف أفكار ومعتقدات تخلى عنها أصحابها الرسميون.
السجال يتعلق بفشل تجربة الإسلام السياسي في الحكم بصورة عامة وبدون استثناء، فكلما ولدت تجربة جديدة في بلد ما شهدت تلك التجربة أزمة سياسية ما بين الأحزاب الإسلامية نفسها تقف وراءها مصالح ومكتسبات ذاتية. عليه هناك خلل حقيقي في عمل أحزاب الإسلام السياسي، هذا الخلل قد أظهر وجهه المزدوج في التجربة بصفتها حاملة للهوية الدينية من جهة، وتصديها للعمل السياسي من جهة أخرى. ناهيك عن أنها أسست إلى صراع فكري وسياسي مع تيارات سياسية متباعدة الرؤى والأيديولوجيا عنها من أجل الوصول إلى السلطة، بالتالي فقدت الرمزية الإسلامية، فظهرت في فترة ما القومية العربية بديلا عنها، وكذلك بروز الشيوعية والاشتراكية، وفي العراق اليوم بعد تجربة عشرين عاما ظهرت حركات سياسية واجتماعية ذات توجهات مختلفة ومتنوعة، وكذلك تيارات أيديولوجية علمانية وليبرالية بتوجهات يمينية ويسارية وغيرها تعلن رفضها للتجربة، بالرغم من إصرار بعض المنتفعين والمؤمنين على أن تجربتهم تتمتع حتى الساعة بقيمة تأويلية لا يستهان بها. إن التناقضات الأساسية في تجربة الإسلام السياسي بالحكم أو الممارسة تتعلق بالدين نفسه، وهي تناقضات أقرها وأعترف بها أنصارها ومناوئوها على حد سواء، بحيث أصبحت التجربة لا تصلح لخدمة الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى الدينية، وهي تتمثل في الالتباس الحاصل بين السيرورة التاريخية للتجربة نفسها منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 والنتائج المزعومة المسبقة التي يفترض لهذه السيرورة أن تمارسها على الدين.
ولأن الأحداث تفرض نفسها بقوة، من الطبيعي أن أقع في فخ التكرار، فقد ذكرت في مقال سابق بالإشارة إلى كتابي بعنوان (الإسلام الحركي والدولة الوطنية العلاقة المأزومة ص71) ” انفصلت الباكستان عن الهند بعد مشروعها الإسلامي ثم تحولت إلى تجربة فاشلة، ثم انشقت على نفسها فولدت بنغلادش، وهي دولة فاشلة، ثم جاءت تجربة افغانستان ووصل ما يسمى المجاهدون (الإرهابيون) إلى الحكم ثم انهارت التجربة، لتقوم تجربة طالبان ثم تفشل، ثم تجربة السودان وانتهت إلى فشل ذريع، ثم جاءت وانتهت بكارثة. أما بالنسبة للتجربة الماليزية والتجربة التركية، فهم صنعوا نجاحات بنت نموذجها على الأسس الغربية، حيث اعتمدت كلتا التجربتين على التنمية الاقتصادية وهو ما ترفضه الحركات الإسلامية التقليدية”.
على ما تقدم، لا يمكننا أن نعتبر صيرورة الأحداث لأكثر من احتمالين وكلاهما يدين الإسلام السياسي به. احتمال أنها حركات سياسية تمارس الدين، أو احتمال أنها حركات دينية تمارس السياسة. بالنسبة أنها حركات سياسية، فإن فرض وجودها دليل على هشاشتها وضعفها بحيث جرى اختراقها الى مستوى يستوعب عقول كل هذا الحجم الكبير من الجماهير على مستوى بعض الدول العربية التي ثارت عليها ورفضت توجهاتها وإملاءاتها الراديكالية نظريا وعمليا، على سبيل المثال، ثورة 30 يونيو 2013 في مصر عندما خرج ملايين المصريون بثورة عارمة ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين. وبالنسبة للاحتمال الثاني أنها حركات دينية، وهي الحقيقة التي حاول الإسلاميون بمختلف اتجاهاتهم أن يعترفوا بها منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين من خلال تصدير خرافاتهم الى دول المنطقة وإشعال نيران الفتن الطائفية فيها باستثمار الدين طائفيا أو المتاجرة في القضيّة الفلسطينية وهموم الشعوب. لهذا تفاقم أخطاء التجربة وتقصيرها بحق الشعوب، مما تسبب الثورة عليها.
في السياق ذاته اهتمت تيارات الإسلام السياسي بمختلف مسمياتها واتجاهاتها بالجانب الاقتصادي منذ نشأتها، وبعد وصولها للحكم تمكنت من فرض سطوتها على كافة المؤسسات الاقتصادية للدولة، فأسست لها كيانات اقتصادية ضخمة تحولت إلى امبراطوريات مالية، تحولت هذه القوى إلى اقطاعيات كبيرة، ومن خلال استئثارها بالسلطة في بعض التجارب استطاعت أن تمتلك أيضا الأدوات التي تدافع عن هذه الاقطاعيات، من كُتاب ومفكرين وإعلام ضخم، الذين رسموا صورة نمطية لأفكارهم واتجاهاتهم قائمة على السلبية والانتهازية، لخدمة اهدافها الحزبية من جهة، أو من خلال ممارسات تلك القوى ومواقفها وسلوكياتها واشهارها لأسلحتها من جهة أخرى، فتارة تكون الحجة الدفاع عن الدين أو الطائفة، وتارة أخرى التشبذ بالديمقراطية وصندوق الانتخابات، كما حصل في مصر آبان حكم جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى اتهام خصومها السياسيين بالعمالة للخارج، من أجل تحقيق اهداف دنيوية اسـتطاعت من خلالها تحقيق مكاسب سياسية كبيرة، إلا أن ذلك لا يلغي جدلية العلاقة بين حركات الإسلام السياسي المعاصر والمشاركة السياسية، بمعنى أنه لم يلغي حقيقة أن حركات الإسلام السياسي المعاصر في العالم العربي والإسـلامي استطاعت أن تفرض حضورا متجددا في ميدان العلاقات الاجتماعية والسياسية في بعض البلاد العربية كفاعل كبير في صوغ مشهدها العام وفي توليد ديناميات جديدة فيها، بحيث لم يعد من الممكن التعبير الموضوعي عن حالة الحراك السياسي بمعزل عن قوى الإسلام السياسي المعاصر. فإذا تفحصنا بدراسة تحليلية واجرينا مراجعة تاريخية لمسيرة حركات الإسلام السياسي الشيعي المعاصر فسوف نجد أنها ظاهرة ازداد نشاطها بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، من ثم تضخم نشاطها في السنوات القليلة الماضية. وأيا كان الأمر فإن الاتجاه الإسلامي في إيران سجل تفوقه على منافسيه الآخرين منذ انتصار الثورة الإسلامية وما يزال، وأصبح الخطاب الإسلامي هو السائد في فضاء إيران الاجتماعي والسياسي، وهو الخطاب الذي انطلق وتشكل في فضاء ثوري، حيث كان لهذا الخطاب تأثيرا عميقا في بناء السلطة وهيكليتها في إيران، بعد أن أستطاع الخطاب الإسلامي القضاء على القوى الليبرالية واليسارية وباقي القوى الأخرى، من ثم تمكن الإسلاميون من إحكام سيطرتهم على المجتمع الإيراني. في الوقت نفسه فإن التجربة الإيرانية تعاني من (قصور في العمل) على أرض الواقع، سيما أنها غارقة في الأزمات الاقتصادية وصراع مع بعض مكونات المجتمع الإيراني. بالتالي أثبتت التجربة فشلها في كل البلدان وبكل المقاييس.
وبما أن التجربة الإسلاموية تنطلق في رويتها للعمل السياسي من خلال بنيتها الأيديولوجية التي أسست عليها منظومة أفكارهم وتوجهاتهم المعقدة والمتناقضة والغير متجانسة، والأخطر من كل هذا مسألة الاجتهاد الشخصي المحكوم باللحظة التاريخية التي يُعبر عن مواقف الحرس القديم ورؤيتهم لقضايا معينة، أو ربما تكون الطريقة اللاعقلانية في فهم النصوص القرآنية اجتماعيا وتاريخيا وسياسيا قد مكنت رموز وقيادات تيار الإسلامي السياسي أن يحصروا اتباعهم في زاوية الانقياد الاعمى لهم. إذن الحقيقة التي لا غبار عليها هي أن حركات وجماعات وأحزاب الإسلام السياسي وقاعدة استناد بناءها لا تتقبل التغيير بوجوب استحقاق التطور الإنساني، وأن تطلعات الشعوب تتناقض جوهريّا مع كل توجهات التجربة، بدليل فقد إذن وقت التصادم بين إرادة الشعب وطموحاته وبين النظام، بعد أن أقحمته التجربة في مسارات أنفاق مظلمة ستنتهي الى كوارث.