18 ديسمبر، 2024 7:57 م

من دمشق إلى كييف العالم يتغير

من دمشق إلى كييف العالم يتغير

شكلت الأحداث في سوريا منطلقًا للاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط عموما والمنطقة العربية على وجه الخصوص، ومنها بدأت تحاك العلاقات الاستراتيجية مع دول المنطقة من خلال المصالح والأهداف والأخطار المشتركة التي تجمع هذه الدول مع روسيا.
كانت روسيا تشعر بالخطر الحقيقي من الزحف الأوربي المدعوم أمريكيا من أجل الوصول إلى حدودها الجنوبية ومحاولة حصار أسطولها البحري من خلال افتعال الأزمات مع دول الجوار القريب لروسيا ولاسيما في أوكرانيا التي تضم جزيرة القرم القاعدة البحرية الرئيسية للأسطول البحري الروسي من أجل خنق روسيا وذلك بالسيطرة على الممرات المائية وضم دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي إلى حلف شمال الأطلسي.
منذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى سدة الحكم في العام 2000، وأصبح على رأس الهرم في قيادة روسيا الاتحادية، وبناء على خلفيته الاستخباراتية بدأ يستشعر الخطر الحقيقي المحدق بروسيا ووحدتها الوطنية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وضرورة درء هذا الخطر وإعادة روسيا إلى أمجاد الاتحاد السوفيتي سابقا ووقف التمدد الغربي باتجاه دول الجوار الروسي والذي تعتبره روسيا جزءا لا يتجزأ من أمنها القومي وكذلك إيجاد استراتيجية جديدة من أجل إعادة التوازن إلى النظام الدولي وإنهاء التفرد الأمريكي بالقرارات الدولية.
بدأت الأحداث مع وقع الأزمة في سوريا في العام 2011، من خلال ما يسمى بـ”ثورات الربيع العربي” التي اجتاحت معظم البلدان العربية وغيرت أنظمة الحكم فيها وبرعاية غربية تقودها الولايات المتحدة ودفع حلفاء روسيا ثمن ذلك التغيير.
أما الأحداث في سوريا فكانت مختلفة وكذلك الأهداف اختلفت بتشابك المصالح الدولية والإقليمية فيها وبالتحديد فإن سوريا تختلف عن بقية الدول التي مر بها الربيع العربي وتغيرت أنظمتها الحاكمة لذلك شعرت روسيا أن الهدف الأكبر من هذا التغيير هو إبعادها عن المسرح الدولي ومناطق النفوذ التاريخية المطلة على سواحل البحر الأبيض المتوسط، علما أن لدى روسيا علاقات تاريخية مع سوريا تمتد لعدة عقود وتحديدا عندما وقفت إلى جانبها وساعدتها في جلاء القوات الفرنسية في العام 1946.
وقد استمرت هذه العلاقة بالتحسن والبناء الاستراتيجي حتى تم إنشاء قاعدة للأسطول البحري الروسي في ميناء طرطوس في العام 1977، وبمرور الزمن تحولت إلى قاعدة ضخمة تطل على سواحل البحر الأبيض وتؤمن طرق تجارتها بالتواصل مع القاعدة الأم في جزيرة القرم.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كانت روسيا تخشى من أن تغيير النظام السوري إلى نظام موالي للغرب سوف يوفر الفرصة الذهبية للتخلص من الطوق الذي يفرضه الغاز الروسي حول عنقها وذلك من أجل بناء مشروع ضخم مع دول المنطقة التي تنتج الغاز وتصدره إلى أوروبا عبر الأنابيت التي تمتد من سواحل جنوبي البحر المتوسط إلى شماله وبهذا تفقد روسيا أهم مرتكز لها في التأثير على أوروبا عبر احتياجاتها لمصادر الطاقة، وكذلك سوف يخسر اقتصادها الكثير من موارده.
كانت روسيا تراقب الوضع في سوريا وتعد قواتها للتدخل في أي لحظة كي تمنع سقوط النظام، لكن الأزمة السورية اتصفت بالتعقيد والتشابك الشديد، وقد اجتمعت فيها مصالح القوى الدولية والإقليمية على حد سواء، يضاف إليه الوضع الداخلي السوري والتاريخ المتراكم من الأزمات وطريقة الحكم العائلي والتي كانت تدار بصلابة شديدة من قبل عائلة الأسد فخلفت واقعًا اجتماعياً مأسوياً يميل إلى التفكك وعدم توازن السلطات فيه، إذ تحكمه أقلية علوية مقابل أغلبية سنية مهمشة دفعت ثمنًا باهظًا طيلة فترة حكم عائلة الأسد.
ولقد جدت روسيا من الصين دولة مناصرة لها في استراتيجية إعادة التوازن إلى النظام الدولي وإنهاء نظام القطبية الأحادية وتحويله إلى نظام متعدد الأقطاب، وقد استطاعت الدولتان توحيد الرؤى حول الأزمة السورية ومنع صدور قرار من مجلس الأمن يسمح بالتدخل الخارجي على غرار ما حدث في ليبيا والتي دفعت الدولتان ثمناً كبيرا عندما سمحت بسقوط نظام القذافي وأبعدت شركاتهما من المشاركة في إعادة الإعمار أو الحصول على عقود في مجال الطاقة، لذلك اتخذتا القرار بعدم السماح بصدور قرار من مجلس الأمن يسمح بالتدخل.
لكن الواقع على الأرض كان صعبا للغاية وتتشابك فيه المصالح والصراعات بين الدول وانقسم العالم إلى مجموعتين المجموعة الأولى كانت بقيادة الولايات المتحدة والدول الغربية المتحالفة معها وبعض الدول العربية بالإضافة إلى تركيا من أجل تقديم الدعم إلى المعارضة السورية وإسقاط نظام الحكم في سوريا.
أما المجموعة الثانية والتي كانت تضم روسيا وإيران والصين والهند والبرازيل والتي لا تدعم تغيير النظام هناك، بل تطالب بإصلاحات، أما سوريا فقد تحولت إلى ساحة حرب عالمية تدار بالوكالة من أجل تصفيات الحسابات الدولية والإقليمية على أراضيها.
في البداية اندفعت المعارضة بشكل سريع وانضم الكثير من أفراد القوات المسلحة السورية وسقطت بيدها الكثير من المدن ووصل القتال قرب القصر الجمهوري وكانت القوات الحكومية تتقهقر بسرعة أما فصائل المعارضة المدعومة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها وبالأخص دول الخليج وفي مقدمتهم قطر والسعودية والإمارات، كادت أن تكسب المعركة لصالحها لكن تدخل إيران القوي لصالح النظام مدعوما من قوات حزب الله اللبنانية وبعض الفصائل الموالية لها في العراق وكذلك فصيل فاطميون الأفغاني منعت سقوط النظام أمام هذه المعارضة المسلحة وتحولت سوريا إلى كتلة من نار تحرقها بالكامل، كانت تركيا في الجانب الآخر تدعم قوات الجيش الحر (أحد فصائل المعارضة والذي يضم أغلب أفراد القوات المسلحة المنشقين عن النظام) حيث فتحت المعسكرات لهم واحتضنت مؤتمراتهم لأنها كانت تشم رائحة أمريكية تسعى لخلق منطقة كردية آمنة كما حدث في شمالي العراق قد تهدد وحدة تركيا ولاسيما أن التنظيمات الكردية كانت أنقرة تعتبرها بأنها نسخة من حزب العمال الكردستاني المصنف بالإرهاب لدى أغلب الدول الغربية وكذلك لدى الولايات المتحدة.
كانت روسيا تشعر بأن هناك هاجساً لدى الدول الحليفة للولايات المتحدة ولاسيما الذين يدعمون المعارضة السورية بأن الولايات المتحدة تسعى إلى أهداف أخرى قد لا تتوافق مع مصالحهم، وعليه كانت الريبة والشك بالنوايا الأمريكية تغلب على هذا التحالف على عكس التحالف الروسي (الصين ـ إيران ـ حزب الله ـ الفصائل الموالية لها من العراق وأفغانستان) والذي كان هدفه واضحا في منع سقوط نظام الحكم في سوريا وكسر شوكة الولايات المتحدة في هذه المنطقة المهمة من العالم.
سعت روسيا من خلال هذه المعادلة لكسب حلفاء جدد في هذه المعركة باستخدام قدرتها على توازن مصالح الأعداء والأصدقاء على حد سواء في هذه الازمة المصيرية بالنسبة للأطراف المتصارعة هناك بحيث استطاعت أن توازن علاقاتها مع إسرائيل العدو اللدود لسوريا وكذلك مع حليفتها إيران وخصمها السعودية وتركيا وخلاف المصالح والأجندات مع روسيا خاصة أن تركيا إحدى دول حلف الناتو.
لذلك رأت روسيا أن هذه الشبكة المعقد قد يمكّنها من بناء علاقات حتى مع الذين تختلف مصالحها معهم من أجل سحب البساط من الولايات المتحدة وكسر شوكتها في منطقة الشرق الأوسط المنطقة الأهم في العالم مع خيبة أمل كبيرة من قبل حلفاء الولايات المتحدة من تصرفات الإدارة الأمريكية في زعزعة استقرار بلدانهم وتغيير أنظمة الحكم فيها، وشعرت روسيا أن هذه الدول تبحث عن شريك قوي يوفر لها جزءا من الحماية وعدم الاعتماد بالكامل على الولايات المتحدة في مصادر التسليح وكذلك العمل على الانفتاح الاقتصادي لهذه الدول مع روسيا والصين وبناء علاقات استراتيجية تحد وتؤثر في القرار الأمريكي وهذا الهدف الاستراتيجي الأول لروسيا.
كانت السعودية منغمسة في دعم المعارضة السورية وتسعى بكامل ثقلها لتغيير النظام السوري الموالي لإيران وكانت هناك حرب تدار بالوكالة بينها وبين النظام الإيراني ومن أجل التأثير على الدعم السعودي للمعارضة، قررت إيران التعاون مع تنظيم أنصار الله الحوثي (الموالي لإيران) لينفذ انقلابا على الحكومة اليمنية القريبة من المملكة العربية السعودية في فبراير2015، وقد سيطر التنظيم على العاصمة اليمنية صنعاء واتجه نحو عدن للسيطرة عليها وسط انهيار كامل للحكومة اليمنية.
ولقد أدركت الحكومة السعودية جيداً أن هذا الانقلاب يستهدفها بشكل مباشر ويجب التصدي له قبل فوات الأوان وهذا يحتاج إلى قرار دولي لمواجهته وخلاف ذلك ستكون الأمور أكثر تعقيداً كانت السعودية تخشى أن تعارض الصين وروسيا داخل مجلس الأمن وتصبح عاجزة عن المواجهة في ظل شكوك من الدعم الأمريكي لها، وجدت الدولتان (روسيا والصين) الفرصة المواتية من أجل نسج علاقات استراتيجية مع السعودية الدولة الحليفة الاستراتيجية الأولى للولايات المتحدة منذ عقود وكذلك المصدر الأول للطاقة في منطقة الشرق الأوسط والتي تتعرض لابتزاز كبير من قبل الإدارات الامريكية المتعاقبة، وفعلا صدر قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع يدين الانقلاب الذي نفذه الحوثيون وبذلك حصلت السعودية ودول الخليج على الضوء الأخضر لمواجهة الحوثيين عسكريا دون قلق من تبعات التدخل في اليمن، عقب صدور القرار.
بدأت العلاقات الروسية ــ السعودية وكذلك العلاقات الصينية ــ السعودية تتطور بشكل سريع وإيجابي في كل المجالات وتبادل الزيارات على أعلى المستويات وبذلك سحبت روسيا والصين البساط من تحت الإدارة الامريكية ومن أهم حليف لها في المنطقة وكان الهدف الأساسي أن تخرج السعودية من دائرة الطوق الأمريكي وأن تكون قرارتها فيها نوع من الاستقلالية وألا تستخدم كأداة لتنفيذ سياسات الإدارة الأمريكية.
جاءت الحرب الروسية ــ الأوكرانية لتحصد روسيا نتائج الاستراتيجية التي اتبعتها طيلة الفترة التي تولى فيها الرئيس بوتين قيادتها والتي عمل فيها سوية مع نظيره الصيني في خلق توازن للقوى الدولية ومنع التفرد الأمريكي بالقرارات الدولية وكسر شوكتهم وتغيير العالم نحو القطبية المتعددة بمساعدة حلفاء أمريكا في منطقة الشرق الأوسط واستخدام مصادر الطاقة للضغط على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وعدم السعي لزعزعة دولة روسيا الاتحادية من خلال محاولات ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وكذلك دعم تايوان على حساب جمهورية الصين.
كانت النتائج مثمرة لهذه الاستراتيجية بعد زيارة بايدن لهذه المنطقة وطلبه من دول الخليج تعويض السوق العالمية بمصادر الطاقة لكي يتسنى للإدارة الأمريكية فرض عقوبات أكثر صرامة على صادرات النفط والغاز الروسية وتعويض السوق من حلفائها في المنطقة ولاسيما أن السعودية تتصدر القائمة بعد الولايات المتحدة في إنتاج النفط، لكن السعودية اعتذرت عن عدم قدرتها على ضخ مزيد من النفط إلى الأسواق العالمية وبذلك حققت الاستراتيجية الروسية هدفها في عدم امتثال حلفاء الولايات المتحدة لطلبات الإدارة الامريكية في الأهداف التي لا تخدم مصالحها بالإضافة إلى الفتور الذي صاحب هذه الزيارة.
هنا ظهرت قدرة الروس على استغلال الأزمات وتحويلها لصالحهم وخلق حالة من التوازن في القرارات الدولية ونسج علاقات استراتيجية تخفف اعتماد الدول على الإدارة الأمريكية في حماية بلدانهم وتنويع مصادر السلاح وبناء استثمارات ضخمة تجعل العلاقة تتشابه ومصالحها متنوعة وقد تكون هذه بداية نحو عالم متعدد الأقطاب وإعادة التوازن والسلم العالمي بعد أن فقدها العالم بسبب التفرد الأمريكي في هذه القرارات منذ سقوط الاتحاد السوفيتي في العام 1991.
كما أن روسيا تحاول إعادة سوريا إلى الحضن العربي من خلال استثمار علاقاتها بدول الخليج مقابل تبديد مخاوف هذه الدول من سلوك النظام السوري وعلاقاته المصيرية مع النظام الإيراني من أجل الحد من النفوذ الأمريكي داخل هذه المنطقة، يضاف إليه التعاون الروسي مع تركيا في تسليمها منظومة (إس 400) المتطورة والتي كسرت الاحتكار الأمريكي للسلاح لدول حلف الناتو وكان ذلك مقابل التعاون في الملف السوري وطمأنة تركيا بعدم حصول الأكراد على استقلالية في الحكم الذاتي واستخدامهم لتهديد الأمن القومي التركي على عكس ما فعلته واشنطن عندما قامت بتسليح هذه العناصر ضد إرادة الجانب التركي.
كانت روسيا تهدف من هذه الاستراتيجية استعادة مكانتها التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفيتي قبل انهياره كدولة عظمى، وأن هذه الاستراتيجية لا يمكن لها أن تنجح إلا من خلال إعادة توجيه الاقتصاد الوطني وفتح آفاق جديدة له وكانت منطقة الشرق الأوسط محور هذه التحركات، من خلال بناء المنشآت النووية وبيع الأسلحة لهذه الدول وفتح أسواقها أمام البضائع الروسية، وكذلك جذب رؤوس الأموال والاستثمارات إلى داخل روسيا، والحصول على استثمارات ضخمة في مجال الطاقة، وربط تلك الدول بعلاقات مصيرية تؤمن لها الحماية من التقلبات الأمريكية.