سوف لن يتسنى لنا تفسير حالات النكوص الحضاري والانحدار القيمي والتقهقر الإنساني التي ما برحت تشهدها شعوب البلدان المطعون في شرعية أنظمتها التسلطية والمشكوك في وطنية دولها الطغيانية ، فضلا”عن استخلاص الكيفيات التي يمكن بالاعتماد عليها إيجاد السبل القمينة بانتشال تلك الشعوب مما تعانيه من مآس في أوضاعها السياسية وظروفها الاقتصادية وعلاقاتها الاجتماعية وأنماطها الثقافية ، ما لم يجري كشف النقاب عن مقومات الوضعية المأزقية التي يعيشها الإنسان المدّجن في تلك الأصقاع الموبوءة بالقمع السياسي والقهر الاجتماعي والحرمان الاقتصادي والاستلاب الثقافي . ذلك لأن الكثير من مشاهد تلك الدراما البشرية التي ما انفكت تعكس جسامة مصائبه وضخامة معاناته وفداحة انكساراته ، متأتية – في الأغلب الأعم – من وضعية تآلفه مع ظواهر الخنوع لمشيئات لا تنبع من وحي ذاته ، والخضوع لارادات لا تحترم اعتبار آدميته ، والانصياع لسلطات لا تقيم وزنا”لمشروعية حقوقه ، والاستتباع لعلاقات لا تراعي حرمة لخصوصيته ، للحد الذي بلغ به الأمر إلى مستوى من التماهي والتوحد مع نوازع جلاديه ، والمواظبة على اجتياف قيمهم واستبطان أفكارهم واستضهار تصرفاتهم . ولعل هذا الضرب من السلوك المجافي لطبيعة الإنسان والمخلّ بكرامته دفع بالقاضي الفرنسي (أتين دي لابوسييه) إلى إبداء دهشته وإعلان امتعاضه حيال هذه الظاهرة الغريبة التي تتلبسه حين كتب يقول : (( انه لأمر يصعب على التصديق أن نرى الشعب متى ما تم خضوعه ، يسقط فجأة في هاوية النسيان العميق لحريته إلى حد يسلبه القدرة على الاستيقاظ لاستردادها ، ويجعله يسرع إلى الخدمة صراحة وطواعية حتى ليتهيأ لمن يراه انه لم يخسر حريته بل كسب عبوديته ))(1) . والحال انه إذا كان مفهوما”في إطار قيم الماضي وطبيعة أعرافه ونمط علاقاته ؛ ان شعوبا”بكاملها قد رضخت طائعة لشروط عبوديتها واستسلمت مختارة لأوضاع إذلالها ، وسيقت وهي مخدرة بالترهات الميتافيزيقية أو معبأة بالأباطيل العنصرية ، نحو جحيم تدميرها المشترك وإفنائها المتبادل ، إرضاء لغرور هذا الطاغية المتعصب أو إشباعا”لأطماع ذاك المستبد المغتصب(2) ، فانه لم يعد مبررا”ولا مقبولا”بالمرة استمرار مسلسل هذه الجرائم ترتكب ضد شعوب أضناها البؤس وسحقتها التعاسة لا ذنب لها سوى كونها وجدت في أوطان انتهكت جغرافيتها السياسة ، واخترقت نسيجها الانثروبولوجيا ، ومسخت وعيها الايديولوجيا ، وتلاعب بأحداثها التاريخ ، ونهب ثرواتها الاستعمار ، في الوقت الذي ان بقية شعوب المعمورة ما برحت تغذّ السير وتسارع الخطى نحو عوالم جديدة غير مسبوقة ان من حيث التطور العلمي والارتقاء المعرفي والتراكم الاقتصادي والاندماج الاجتماعي والتشارك السياسي ، أو من حيث تشكيل محاور الاستقطاب الدولي وتبلور ملامح الهيمنة الكونية ، دون أن يكون– بالطبع- للشرعية والقانون الدوليين أي دور أو نصيب في هذه الصياغة الفائقة والتكوين الاستثنائي ، إلاّ ما تسوغه مقومات القوة وعلاقات الغلبة ، فهي المعايير التي يؤخذ بها ويحتكم إليها حين يتعلق الأمر بالمصالح الاقتصادية والارادات السياسية والتطلعات الاستراتيجية .
ولأجل أن يتاح للإنسان الموءودة حريته والمنتهكة كرامته والمهدورة حياته والمستباحة حرماته ، إمكانية التمييز بين عواقب أن يستمرأ حالة الانقياد لكل ما يوحى إليه من أوهام وسخافات ، والتسليم بكل ما يشاع حوله من أساطير وخرافات ، سواء تعلق الأمر بطبيعة تكوينه البيولوجي / النفسي ، أو بخصائص روابطه الاجتماعية / الثقافية ، أو بأنماط علاقاته السلطوية / القانونية ، طالما انه تخندق خلف خيار العزلة ، واتجه نحو إيثار الانكفاء ، وتمترس وراء رهان المهادنة . إذ ان (( السلبية تعزز وتؤكد الإبقاء على الوضع القائم . وتتغذى السلبية على ذاتها ، مدمرة القدرة على الفعل الاجتماعي الذي يمكن أن يغير الظروف التي تحد من الإنجاز الإنساني ))(3) . وبين مناقب أن يلج أتون الانتقاد لكل ما يحيط به من أفكار وتصورات ، والمساءلة لكل ما يؤصل فيه من مطلقات وبداهات ، والتفكيك لكل ما يؤسس له من علاقات وتوافقات ، والتأويل لكل ما يضفي عليه من معان ومفهومات ، والتحليل لكل ما ينسج حوله من قيم وأخلاقيات ، والمراجعة لكل ما تواضع عليه من تقاليد وعادات ، فيما لو سعى إلى ترصين إرادته الذاتية وتعميق مداركه المعرفية وتوسيع علاقاته البينية وتكثيف روابطه الإنسانية ، عبر تبنيه خيار الوعي الديمقراطي الذي يعد في منظور الفكر السياسي المعاصر من أرقى ما توصلت إليه الخبرة الاجتماعية عبر حصاد تجاربها وخلاصة ممارساتها ، فضلا”عن الركون لمتطلبات قيمه الحضارية واستلهام مبادئه الإنسانية حيث الدعوة للمشاركة الفاعلة تحتل مقدمة المهام المتعلقة بإدارة الشأن العام وتدعيم ثوابت المصلحة الوطنية من جهة ، والحضّ على التصدي الواعي والمواجهة المسؤولة لكل ما يعيق مؤسسات المجتمع المدني من التعبير عن وظائفها حيال الدفاع عن مصالح الفرد / الجماعة على وفق ما يمليه معيار المواطنة ، والإسهام في حماية حقوقهم والذود عن حرياتهم حين يتعاظم طغيان الدولة ويستفحل جور السلطة من جهة ثانية ، والتشجيع على ولوج مضمار التفاعل المنتج باعتباره ضرورة تاريخية تستلزم الاندغام في الأحداث والانخراط في الممارسات ، بما يحقق شرط الوعي النقدي للفاعل الاجتماعي ويجسد رهان المجتمع في انتهاج سبيل الضبط الذاتي والمراقبة العقلانية لآليات اشتغال العلاقة ما بين الدولة كمالك للسلطة والمجتمع كصاحب للسيادة من جهة ثالثة . ذلك لأن من خصائص هذا النمط من الوعي انه ينمي ((ثقافة المشاركة أو المساهمة التي تنظر إلى الأفراد على إنهم مواطنين ، وتؤكد على ضرورة مشاركتهم في وضع السياسات والقرارت وليس مجرد الامتثال لها ))(4) . ولأن عملية توطين الوعي النقدي في تضاعيف السيكولوجيا الاجتماعية تعد من الصعوبة بمكان ، بحيث يندر أن تكلل بالنجاح وتؤتي ثمارها أية جهود تبذل في هذا المضمار ، ما لم يجري على نحو مسبق ليس فقط استقصاء طبيعة المجتمع المعني من ناحية تشكيلاته السوسيولوجية واستجلاء خصائصه من ناحية مكوناته الانثروبولوجية فحسب ، وإنما التنقيب في مصادر رموزه وأصول معتقداته ، والحفر في طبقات وعيه وحقول فكرياته ، والبحث في خرائط تفاعله وتضاريس علاقاته . وهو الأمر الذي يؤمل منه النأي بموضوع هذا الدرس عن احتمال السقوط في إشكاليات المفاضلة أو الانزلاق نحو فخاخ المقارنة ما بين وضعية أن يسبق (وعي) الإنسان أمكانية (ممارسته) للخيار الديمقراطي أم العكس . أي أن تتقدم خطى الممارسة على شرط الوعي لتقوّم مساره وتحدد اتجاهاته ، أم ان الوعي هو من ينبغي أن يتصدر مضمار الحركة ثم تليه الممارسة ، بعد أن يسبغ عليها دلالات الواقعية ، ويمنح إياها غطاء الشرعية ، ويستخلص لها مضامين الفاعلية ، ويغرس فيها بذور العقلانية ، ويعين لها آماد الصلاحية. لكي يتمكن المجتمع بعد ذلك من الولوج إلى عصر التحول الديمقراطي على أمل أن يحظى بفضائله المتعددة ويتمتع بمزاياه الكثيرة ، لاسيما وقد تصارعت على أرضية هذه الفكرة / الحلم مختلف القوى السياسية والتيارات الإيديولوجية ، التي وقع الغالبية منها أسير النظرة الأحادية لمسار التاريخ وحراك الواقع ، معتقدين بأن تبني هذا الخيار أو ذاك المنهج كفيل بإنجاز ما يصبو إليه المجتمع من آمال وبلوغ ما يروم تحقيقه من تطلعات ، بصرف النظر عما تستلزمه تقلبات السياسة وتوقعات الاقتصاد واحتمالات الاجتماع وانزياحات الثقافة . ولهذا فان للمراحل التاريخية متطلباتها ، وللبيئات الحضارية اشتراطاتها ، وللمنظومات الرمزية رهاناتها ، وللتنوعات الاقوامية خصوصياتها ، وللظروف السياسية الزاماتها ، وللعلاقات الخارجية مؤثراتها . بحيث لا يمكن الجزم بمآل أية تجربة اجتماعية والتعويل على أية ممارسة سياسية ، فضلا”عن توقع تخوم ما تنطويان عليه من نتائج وخلاصات ، ما لم تؤخذ كل هذه القيود والضرورات بعين الاعتبار ، بغية الكشف عن أنماط معطياتها والاستدلال على طبيعة مؤثراتها كما ويصار إلى درس كل حالة على حدة بما يجعل من هذه التجربة أو تلك بمثابة حصيلة إجمالية لعمليات التوافق والتفارق أو التجاذب والتنابذ أو التماثل والتمثل ، ما بين عناصر الفكر الخلاق ومكونات الواقع الحيّ . مما يعني – كما يؤكد المفكر اللبناني علي حرب – (( ان الفكرة على الورق وفي الخطاب هي غيرها في المعترك وعلى أرض الممارسة ، إذ هي تخضع في أتون التجربة للتعديل والتطوير أو الترميم والتطعيم أو للتبديل والتغيير ، سواء من جهة علاقاتنا بالحقيقة والمعرفة أو بالقوة والسلطة))(5) . ولذا فمن المؤكد ان ما قد يصلح ويبقى هنا من أفكار وتصورات لعله سيضمر ويفنى هناك ، وما قد يجد تجاوبا”وقبولا”في هذا المجتمع من تجارب وممارسات المرجح انه سيجابه بالرفض والاستهجان في مجتمعات أخرى ، وما قد يكون سهل الهضم والتمثل في هذه البيئة من قيم وعادات المؤكد انه سيتم لفظه واستبعاده في بيئات مغايرة وهكذا .
والمفارقة هنا ان هذه الواقعة الفعلية التي تشكل لب الجدلية الاجتماعية ، كان يفترض بصناع القرار في بلدان العالم المتخلف أن يهتبلوا فرص توظيف معطياتها واستثمار نتائجها باتجاه دفع عمليات الإصلاح السياسي ، وتسريع وتائر التنمية الاقتصادية ، وتحسين أوضاع البيئة الاجتماعية ، وتطوير مؤسسات التربية الثقافية ، وتدعيم مراكز الأبحاث العلمية والمعرفية ، تحولت لدى أنظمة الحكم التسلطية في تلك البلدان إلى وسيلة مغرية لتغويل الدولة وأداة مشجعة لتوحش السلطة وطريقة مضمونة لتأليه السلطان ، لاسيما حين أسرفت تلك الأنظمة بممارسة أسوأ ما يمكن تصوره من أعمال القمع لحرية الرأي المستقل – ناهيك عن المعارض – وإلغاء الحقوق المدنية المشروعة – ناهيك عن السياسية – وتعطيل المنظمات المهنية الناشطة – ناهيك عن المؤسسات الدستورية – تحت شتى المزاعم والذرائع التي تتجلبب تارة بغطاء المصالح الوطنية العليا ، وتارة ثانية بالتهديدات الإقليمية والدولية ، وتارة ثالثة بالضرورات القومية والتاريخية ، وتارة رابعة بالمشروعات التنموية والحضارية . وهو الأمر الذي لم يؤدي فقط لاستنزاف قدرات الإنسان وإهدار طاقاته وتأزيم وضعه وتشديد معاناته فحسب ، وإنما ساقه للعزوف الطوعي و/ أوالقسري عن أية مشاركة أو إسهام يتوقع من خلاله وقوع الضرر عليه وحصول المساءلة بسببه ، وبالتالي إيثار العزلة الاجتماعية واللاابالية السياسية ، تاركا” لسواه تدبير شؤونه وإدارة مصالحه بعيدا”عن رغبته وخلافا”لاحتياجاته . وعوضا”عن إبداء النفور من هذه الحالة / المحنة ، والتطلع الجدي والمسؤول لإيجاد حلول واقعية واجتراح مخارج عقلانية تتكفل بعلاج مثل تلك العيوب والمثالب ، فضلا”عن الحدّ من انتشارها واستئصال آثارها المدمرة ليس فقط على مستوى هياكل السلطة السياسية وأنماط اشتغالها فحسب ، بل وعلى مستوى النظام الاجتماعي برمته أيضا”. وذلك عبر تطعيم المجتمع بعناصر الوعي الاجتماعي وتوطين قيم المواطنة في السيكولوجيا الاجتماعية ، التي من شأنها تحفيز بنى الوعي الجمعي وتفعيل منظومات الثقافات الفرعية وتنشيط مقومات الهوية الوطنية . أي انه بدلا”من أن تتجه جهود الأنظمة التوتاليتارية ، التي تحكمت بمصائر شعوبها ردحا”طويلا”من الزمن ، إلى تخفيف أعباء الحرمان الاقتصادي ، وتلطيف أجواء الاحتقان الاجتماعي ، وتجفيف غلواء الطغيان السياسي ، عمدت إلى تكريس هذه العيوب والإبقاء على تلك المثالب ، بغية الاستعانة بمخلفاتها النفسية والانتفاع بافرازاتها الاجتماعية ؛ إما باللجوء إلى التشريعات القانونية المتعسفة ، وإما بالاحتكام إلى الضرورات الأمينة المفبركة ، وإما بالاعتماد على الإجراءات الوقائية الجائرة . لا بل إنها ابتكرت الكثير من الصياغات التسويغية وابتدعت العديد من الممارسات التبريرية التي لم يصادف المواطن نظيرا”لها إبان عهود الاحتلال الأجنبي لبلاده ، حين كان يخضع لسلطته الفعلية وينصاع لأوامره المباشرة . فالجهل أصبح خطيئة الشعوب التي تقتات على أفيون الأوهام والخرافات وليس جريمة الحكام الطغاة الذين يخشون شيوع العلم ويمقتون انتشار المعرفة . والتخلف أضحى طبيعة الجماهير التي تستمرأ الكسل وتميل إلى التواكل وليس رذيلة الأنظمة الاستبدادية الغارقة في مستنقعات الفساد والسادرة في انتهاج قمع المخالف وابادة المعارض . والعنف أمسى خاصية المجتمعات التي تهوى المشاكسة وتعشق العدوان وليس تعبيرا”عن انحراف الدول التي تحولت إلى وحوش كاسرة تلتهم الضحايا وتفترس الأبرياء . وهكذا فان (( الجماهير التي يعزى إليها صنع التاريخ ، إنما تستعمل غالبا”لصنع تاريخ فئات أو طبقات أخرى . كالنحل الذي يسرق عسله (أكله) وكالأشجار التي تؤخذ ثمارها وان مدح الجمهور ، في الخطابين السياسي والديني ، إنما يستعمل لاغتصابه ، ولإقامة دكتاتورية باسمه ، لإدامة تخلفه وجهله وفوضاه ))(6) . وإزاء هذه الحالة / الإشكالية يغدو الحديث عن المطلب الديمقراطي – في إطار هكذا نمط من المجتمعات – ضربا”من ضروب التشوش الفكري والتخبط المنهجي ، ناهيك عن التهور السياسي . إذ لا يعقل أن يسمح لمن يجهل أبجدية العمل السياسي الواقعي ، ويفتقر لأبسط مقومات الوعي الاجتماعي الناضج ، كما لا يتقن لغة التحاور مع الآخر ولا يجيد فن الإصغاء لرأي الغير ، فضلا”عن إسقاطه للحدود القائمة ما بين مصالحه الشخصية ورغباته الذاتية من جهة ، وبين مصالح الشأن العام وأهدافه المشتركة من جهة أخرى ، أن يطالب باستحقاقات الخيار الديمقراطي وما يشتمل عليه من قيم خاصة وممارسات نوعية ، تستلزم المشاركة في إدارة شؤون المجتمع الآنية والإسهام في صنع القرارات المتعلقة بمصيره المستقبلي من جهة ، والمبادرة الذاتية في الحفاظ على هويته الوطنية وتراثه الرمزي وذاكرته التاريخية من جهة ثانية ، والانخراط في عملية نقد السلطات ومراقبة المؤسسات ومحاسبة الممارسات من منظور عقلاني فاعل من جهة ثالثة . فالديمقراطية – كما يقول آلان تورين – (( قبل أن تكون مجموعة من الإجراءات والتدابير ، هي نقد للسلطات القائمة وأمل بالتحرر الشخصي والجماعي ))(7) . والغريب في الأمر ان الحكومات التي انتهجت سلوك الاستبداد والطغيان ، بحيث لم تعدم وسيلة من وسائل التمويه الإيديولوجي والخداع السياسي والتضليل الإعلامي دون أن تلجأ إليها ، لتليين عريكة رعاياها وترويض عقولهم وتدجين شخصياتهم ، لكي تستمر حالة الانقياد وتترسخ ظاهرة الخنوع ، إنها نادرا”ما أدركت – في الوقت المناسب وقبل أن تفلت الأمور من الزمام ، ويغدو متعذرا”السيطرة على الموقف والإمساك بمفاتيح الأزمة – انه منذ اللحظة التي تقرر فيها الشروع باختيار هذا السبيل الوعر، والرهان على تلك الطريقة المحفوفة بالمخاطر ، فأنها تكون أول من يضرب بمعاول الهدم أسس شرعيتها ، وأسبق من يسهم بتقويض عناصر وجودها أي ان كل ما تحاول توظيفه كقيود وقائية رادعة لتكبيل إرادة المجتمع وكبح جماحه والحيلولة دونه والتطلع لنيل حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، غالبا” ما تساق ضدها وتنقلب وبالا” عليها ؛ ان من حيث قدرتها على ترتيب أوضاعها الداخلية المضطربة أو من حيث إدارة شؤونها الخارجية القلقة ، وتكون بالتالي سببا” في مفاقمة مشاكلها وتصعيد أزماتها وزيادة ضعفها وتسريع سقوطها . ولهذا فقد أصاب المفكر الفرنسي ( موريس دوفرجيه ) كبد الحقيقة حين كتب متسائلا” (( أفلا تضم الدكتاتورية بين جنباتها منزلقا”كثيرا”ما تهوى فيه – بحكم طبيعتها وتكوينها – نعني منزلق الانتهاء إلى جعل الدكتاتورية هي الهدف والغاية ، مع تبرير ذلك بأسباب خادعة كاذبة وبأهداف مشوهة لم يبق منها إلاّ اللفظ؟ أوليس الحد من حرية التعبير والتفكير – وهو شيء ملازم للنظام الدكتاتوري – معولا”هدّاما”كافيا” لأن يقلب أكثر الدكتاتوريات – مهما تكن ثورية النشأة – إلى دكتاتوريات رجعية تمارس الضغط وتوسع رقعة الإرهاب شيئا”بعد شيء ، حتى يشمل معظم فئات الشعب ؟ ))(8) . هنا ينبغي التريث حيال الإطناب في تعداد مساوئ السلطات التي تتخلى عن وعودها للجمهور الذي انقلبت عليه بعدما وجدت لأجله ، لإعادة طرح الموضوع من منظور مختلف . ذلك لأن (سلاح النقد) غالبا”ما يحتاج إلى (نقد السلاح) كما أشار ماركس ذات مرة . إذ ان ممارسة هذا الضرب من الحقّ الإنساني ، لا بل قلّ الواجب الوطني ، تتطلب – من جملة ما تتطلب – أن يكون الفرد أو الجماعة المكلفين بإنجاز هذه المهمة على درجة معقولة من الوعي الاجتماعي ومستوى لائق من التمدن الحضاري ، بحيث يشكلان منطلقا”أوليا”للتعامل مع معطيات الفعل السياسي ، لا كمفهوم بدائي يسوغ نزعات العنف ويجيز رغبات التسلط في الوجدان الجمعي لحشود الجماعات الأصولية المعبئة بالحساسيات والمشحونة بالانفعالات ، وإنما كفن لإدارة الصراعات البينية بما يضمن المصالح ، وتسوية الخلافات الجانبية بما يصون الحقوق ، وعقلنة الخيارات المستقبلية بما يؤمن التواصل . وهكذا فان مسألة توفر حدّ أدنى من عناصر الوعي ومستويات التمدن بالنسبة لمكونات المجتمع ، تغدو ضرورة ملحة ليس فقط لإنجاح عمليات النقد والمساءلة التي يراد لها أن تكون قاعدة تقييم وتقويم ممارسات النظام السياسي في الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فحسب ، بل وللحيلولة دون تفريط الشعب بحقوقه أو التخلي عن واجباته في الذود عما حققه من إنجازات في البناء وما ناله من مكتسبات في التطور ، حين يلمس بأن توجهات النظام المعني قد أضحت تتجاوز على حرياته وتتعارض مع مصالحه . ذلك لأنه يخشى – في حالة شيوع مظاهر لجهل وانتشار معالم التخلف – من تحول هذا الحق في المسؤولية الوطنية والوحدة الاجتماعية والتسامح الديني والمرونة الفكرية والالتزام الأخلاقي إلى دافع يبيح ظواهر العنف السياسي والتعصب ألاثني والتطرف المذهبي ، على خلفية رواسب الحرمان الاقتصادي ومخلفات التهميش الاجتماعي وتراكمات الإقصاء الثقافي ، حيث تنقلب الأدوار وتتغير الأمكنة وتتبدل المواقع . وكما لاحظ الباحث العربي (مصطفى حجازي) في دراسة قيمة له ان الشعب المسحوق عندما ينتفض (( ويحمل السلاح بما يعنيه من معاني الخلاص السحري ، ويقهر الموت منتصرا”على خوفه منه ، يلاحظ تغيير في التجربة المعاشة والسلوك ، هو على النقيض تماما”من مرحلة الرضوخ . فبدل عقدة النقص تبرز عقدة التفوق والاستعلاء وبدل العجز والاستسلام تبرز عقدة الجبروت ، وبدل انعدام المكانة تبرز عقدة الاستثناء ))(9) ، وهو المنعطف الذي تبلغ الأمور عنده حدّ القطيعة والاحتراب ؛ لا بين الشعب والنظام الذي يحكمه ، ولا بين المجتمع والدولة التي تقوده فحسب ، وإنما بالإضافة لذلك بين المكونات الاجتماعية ذاتها بعد أن تستنفر العصبيات والأصوليات والمذهبيات إلى حدّها الأقصى ، تعبيرا”عن النكوص الحضاري وانفراط العقد الاجتماعي ، حيث تتحول دولة القانون إلى مؤسسة للمليشيات المتقاتلة التي يخون بعضها البعض ، وتنقلب سلطة النظام إلى جهاز للطوائف المتصارعة التي يكفر بعضها البعض الأخر . وعلى ذلك فحري بالأنظمة السياسية التي تنشد الظفر بالأمن الاجتماعي وتحقيق الاستقرار السياسي – كائنة ما كانت النوايا والغايات التي تؤطر توجهاتها وتجسد أفعالها – أن لا تحرّم على المواطنين ممارسة حق النقد البنّاء لكل ما تقع فيه من أخطاء وكل ما ترتكبه من تجاوزات ، كما لا تجرّم كل من يضع سياساتها تحت ضوء المساءلة المشروعة ، بحجة ان سلوك من هذا القبيل قمين بإلحاق الضرر بالمصالح العليا للبلاد . بل على العكس من ذلك ينبغي عليها – وهذا من حقهم كمواطنين في المحصلة النهائية – وضعهم في المجال الذي يتيح لهم امتلاك ناصية الثقافة السياسية ، وإظهار كم هي نافعة ومفيدة مشاركتهم الفاعلة في تحمل المسؤولية واهتمامهم بإدارة مصالح الشأن العام . ذك لأن الفكر الممتثل – كما يرى الباحث فيصل دراج – (( يقوم على مبدأين : عبادة المثال وعبادة الثبات ، أي عبادة الحاكم بأمره وقبول حكمه بمعزل عن المكان والزمان والتغير والبؤس والاضطهاد والهزيمة . فالسلطة هي كمال مطلق ونقدها زندقة وسجن وحصار . وفي علاقة المثال والنقد والحصار يصبح الفكر آلة عاطلة أو زائدة أو مجرد حائط معدني تلقي عليه السلطة بين حين وآخر كرة فكرها لتسمع رنينا”معينا” خاليا”من النشاز والفوضى . وعندما تنعدم حركة الفكر وتتماهى , وفق منطق تبعي ، بفكر السلطة ، تتوارى حركة الفكر ويسود صمت الواقع وثباته ))(10) . فهل ينفع الدرّس وتفيد الموعظة ، أم ان للمآرب الشخصية والمصالح الفئوية شأنا” آخر ؟؟ .
الهوامش والمراجع
(1) أتين دي لابوسييه ؛ مقالة في العبودية المختارة ، ترجمة مصطفى صفوان ( ألمانيا ، منشورات الجمل2005 ،
ص 30 .
(2) لقد وجد أستاذ الفلسفة بجامعة الكويت ، الدكتور إمام عبد الفتاح إمام ، ان هناك فرقا”نوعيا”بين طبيعة كل
من ( الطاغية ) والمستبد ) ؛ (( فالبون بينهما بيّن عظيم ، فالمستبد من تفرد برأيه وأستقل به ، فقد يكون مصلحا”يريد الخير ويأتيه ، إما الطاغية فيستبد طبعا”مسرفا”في المعاصي والظلم ، وقد يلجأ في طغيانه إلى اتخاذ القوانين والشرائع سترا”يتستر به ، فيتمكن مما يطمح إليه من الجور ، والظلم ، والفتك برعيته ،وهضم حقوقها . وقد يكيف فظائعه بقالب العدل فيكون أشّر الطغاة ، وأشدهم بطشا”بمن تناولتهم سلطته )) . أنظر في ذلك كتابه : الطاغية – دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي ( الكويت ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، 1994 ) ، سلسلة عالم المعرفة (183 ) ، ص 46 . والحقيقة ان قيم الخير أو الفضيلة لا يمكن أن تنبع من واقع
الاستبداد ، سواء أكان سياسيا” أم دينيا” أو أيديولوجيا”. قد يكون طابع الاستبداد مفيدا” في بعض الحالات الاستثنائية ، حين يهدد شبح الحرب الأهلية كيان المجتمع . إلاّ انه على المدى البعيد لا يمكن أن يجلب لذات المجتمع سوى الفوضى السياسية والخراب الاجتماعي والدمار الاقتصادي والتصحر الثقافي والجدب الروحي .
(3) هربرت أ . شيللر ؛ المتلاعبون بالعقول ، ترجمة عبد السلام رضوان ( الكويت ، المجلس الوطني للقافة والفنون والآداب ، 1986 ) ، سلسلة عالم المعرفة (92 ) ، ص 39 .
(4) الدكتور حسين علوان البيج ( الديمقراطية وإشكالية التعاقب على السلطة ) ، ضمن كتاب : المسألة الديمقراطية في الوطن العربي ) ، سلسلة كتب المستقبل العربي /19 ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية 2000 ) ، ص 164 .
(5) الدكتور علي حرب ؛ الأختام الأصولية والشعائر التقدمية : مصائر المشروع الثقافي العربي ( بيروت ، المركز الثقافي العربي ، 2001 ) ، ج 1 ، ص 25 .
(6) الدكتور خليل أحمد خليل ؛ سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر ( بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 2005 ) ، ص 90 .
(7) آلان تورين ؛ ما هي الديمقراطي ؟ : حكم الأكثرية أم ضمانات الأقلية ، ترجمة الدكتور حسن قبيسي ( بيروت ، دار الساقي ، 2001 ) ، ص 175 .
(8) موريس دوفرجييه ؛ في الدكتاتورية ، ترجمة الدكتور هشام متولي ( بيروت ، منشورات عويدات ، 1965 ) ، ص 17 .
(9) الدكتور مصطفى حجازي ؛ التخلف الاجتماعي : مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور ( بيروت ، معهد الإنماء العربي ، 1976 ) ، ص 78 .
(10) الدكتور فيصل درّاج وآخرون ؛ الثقافة والديمقراطية ( بيروت ، الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ، 1981 ) ، ص 8 .