” يُبيّن هذا اللاّيقين عينه أن مفهوم التأويل ـ مثل مفهوم الوجود عند أرسطوـ يُقَال على أنحاء عدة”1[1]لقد فرق أبو هلال العسكري بين التفسير والتأويل في كتابه الفروق اللغوية حيث أفاد بأن التفسير هو الإخبار عن أفراد أحاد الجملة ووضع كل شيء منها موضعه وإفراد ما انتظمه ظاهر التنزيل ، بينما التأويل هو الإخبار بمعنى الكلام على وجه يحتمل الحقيقة أو المجاز أي الإخبار بغرض المتكلم بكلام2[2] .
لكن ثمة فرق بين التأويل ومنهج التأويل أو التأويلية ، إذ ” التأويل هو استخلاص المعنى الكامن انطلاقا من المعنى الظاهر أي أنه بعبارة أخرى الانطلاق من المعاني المجازية بحثا عن المعاني الحقيقية”3[3]، بينما منهج التأويل يمارس على النص الديني بوصفه من أهم المجالات الحافلة بالرموز والاستعارات والتي لا يخلو في كثير من الأحيان من الغموض والتناقض الظاهري. زد على ذلك ينصب على نصوص أخرى مأخوذة من الفلسفة والأدب والشعر والفن والقانون…وتعتبر تقنية التأويل من أفضل الطرق التي يعتمدها التحليل النفسي لسبر أغوار اللاّشعور انطلاقا من معاينة التصرفات اليومية العادية ومن تفسير الأحلام.”4[4]
لا توجد اختلافات كبيرة في المعنى عندما يتم ترجمة كلمة تأويل من لغة إلى أخرى سواء من العربية أو الفرنسية أو الألمانية أو الأنغليزية وإنما تظهر الفوارق والتباينات التي تصل إلى حد الصراعات والسجال والتطاحن عندما يتم استعمال هذه التقنية أو الصناعة أو الفن أو المنهج أو الاختصاص أو النظرية العلمية وعندما توضع جنبا إلى جنب مع مفاهيم مرادفة على غرار التفسير والفهم والتوضيح والهرمينوطيقا.
والحق أن ريكور قام بزرع الهرمينوطيقا في الفنومينولوجيا وواصل مسيرة الصعود إلى الأصلي ولكن بالرجوع إلى العالم الموجود سلفا والتفكير في الذات من خلال عالم التمثلات وجملة من الأفكار والمعايير وبالانتقال من العالم المعطى بشكل بدئي والعالم المؤول الذي يتشكل من شبكة من العلامات والرموز والقواعد وتدعو إلى التفكير والمقارنة والتكوين والتشكيل وإعادة التشكيل والشروع في الحكم والتعيير.
لقد ركز بول ريكور في الفلسفة التأويلية ذات المصادر الفنومينولوجية على ما تتضمنه اللغة الألمانية من ثراء دلالي وخاصة الزوج المفهومي Auslegun وverstehen ولعل المقصود بهما في هذا المقام هو التأويل والفهم، وبالرغم من الاختلاف الدلالي البسيط بينهما فإن استعمالهما ظلا مستقرا مع اختلافات طفيفة في جميع السياقات سواء تعلق الأمر بالفيلولوجيا أو القضاء أو الدين أو علم النفس أو علم الاجتماع. ولهذا تأسست الهرمينوطيقا Hermeneutik بوصفها الاختصاص العلمي القادر على إعطاء هذا الزوج المفهومي نوعا من الدقة بحيث جعلتهما من أفضل الطرق الممكنة للشرح والتمثيل والتوضيح والإبانة5[5].
علاوة على ذلك يذكر ريكور مصطلحات أخرى تندرج ضمن الحقل الهرمينوطيقي وتحمل استعمالا مرادفا للتأويل والتفسير مثل لفظ Bedeutung والقريب من الدلالة Deutung ولفظ التفسير Erklären الشبيه بالفهم verstehen. لكن مشكلة الترجمة لا يثيرها التأويل Auslegen بل لفظ الدلالة Deutung. هذا الثراء اللغوي والتنوع الدلالي يكشف عن جذور الهرمينوطيقا بوصفها منغرسة في تراث خصب تفجر عند الألمان ولكنه ضارب في الحضارات القديمة ويعود إلى اللغات والثقافات الشرقية والدينية. في هذا الصدد يعالج ريكور مقالا شهيرا لفيلهايم ديلتاي حول الهرمينوطيقا 6[6]ظهر سنة 1900 وأبان فيه عن التزامه بتلبية مطلبين من مطالب الفكر الألماني وهما: أولا الاهتمام بتحصيل الأشكال الكبرى للوجود الإنساني في فرادته وهي ما يسميه فردنة الوجود الإنساني ويتجذر بعمق ضمن النزعة الرومنطيقية ، وثانيا يطمح إلى إعطاء هذا الاهتمام صورة علمية بالرغم من إعلان المواجهة مع النزعة الطبيعانية الوضعية وعزمه على تشييد خصوصية في مستوى المنهج والمفاهيم وبناء الموضوع لعلوم الفكر7[7].
غير أن اتجاه التفسير واتجاه الفهم ما لبثا أن التقيا في مستوى التطور النقدي الذي عرفته الفيلولوجيا الكلاسيكية والتفسير التوراتي حينما كان الفكر يطارد الفريد ويلتزم بمطلب العلمية على أرضية الكتابة. بطبيعة الحال، تمثلت وظيفة الهرمينوطيقا في منح حقل خلفي فلسفي لهذه الاختصاصات الفرعية الجزئية ولقد أطلق ديلتاي على هذا الحقل الخلفي اسم “نظرية في الفهم”8[8] أكثر اتساعا من تأويل الوثائق المكتوبة. هكذا يتوجه الفهم إلى كل العلامات الخارجية للحياة النفسية ويتم تطبيقه على كل التعبيرات9[9] الغريبة ويتحرك موضوعانيا من الباطن إلى الخارج ويصعد من الإنتاجات الخاصة إلى العلامات الموضوعية.
لم يفتك هذا المشروع القيمة العلمية إلا بالاستناد من حيث المبدأ على ثلاثة براهين:
1 العلامات هي وقائع تتساوى من حيث القيمة الوقائع التي تشيد عليها علوم الطبيعة موضوعيتها.
2 العلامات لا تعطى في حالة متفرقة بل في سلاسل مترابطة تمنح مواضيع الحياة صورة نسقية.
3 فردنة العالم الإنساني حصل على درجة عليا من الموضوعية بواسطة التثبيت بالكتابة وما يشبهها.
لكن أين تكمن نقاط الاتصال والانفصال بين فعل الفهمverstehen وفعل التأويلInterpretation ؟
يصرح ديلتاي في سعيه لاكساب الهرمينوطيقا العلمية التي نالتها العلوم الطبيعية ما يلي:” نسمي تفسيرا exégèse أو تأويلا interprétation الفن الذي يعتني بفهم التجليات الحياتية المثبتة بطريقة دائمة”10[10]. لكن لماذا تميز الوضع الهرمينوطيقي قبل ديلتاي بعدم الاستقرار وسوء التفاهم العميق بين المؤولين؟
لقد كان ف . شلايرماخر يعتقد أن وضع حد للاعتباطية والخصومات بين التأويلات يقتضي الاعتماد على اختصاص موحد Kunstlehre يمتلك قواعد مشتركة على غرار الفيلولوجيا الكلاسيكية والتفسير الديني. لكنه ظل بعيدا عن العثور على هرمينوطيقا عامة تمثل فنا صارما للفهم وتلبي مطمح العلمية تلبية تامة والآية على ذلك أنه نحا في اتجاه إخضاع النصوص إلى قواعد ووصفات جاهزة وتطبيقها بشكل تعسفي.
اللافت للنظر أن مشروع قيام هرمينوطيقا عامة قد عرف ثورة كوبرنيكية ،على شاكلة ما حدث للفلسفة الميتافيزيقية على يد كانط ، تمحورت حول تركيز قواعد التأويل، وخاصة العلاقة الدائرية بين الكل والأجزاء ، على العملية المركزية للفهم وليس على تنوع النصوص وتعدد المصادر وتشتت التجارب.
في نفس الاتجاه تحرك ديلتاي نحو دمج الروح النقدية عند كانط مع النزعة الرومنطيقية عند شلايرماخر محاولا العثور على عبقرية الإبداع في المؤلفات ولقد أضاف إليها كشوفات المدرسة التاريخية الألمانية لدى درويزن وليسنغ وتالك و بوبر وما ألت إليه من إسقاطات النزعة التاريخية وتظنن النزعة النسبوية. ولكنه انشد إلى التطور الملحوظ الذي عرفته علوم الطبيعة ومسلماتها الضمنية حول المادية والوضعية وحرص على إبرام ميثاق شرف بين علوم الفكر والتأويلية وإعطاء مسألة التأويل منزلة المنهج العلمي.
غني عن البيان أن مشكل معنى الحياة البشرية يعتبر المشكل الجوهري الذي اهتمت به الفلسفة الغربية وتميزت به عن غيرها وقد ارتبط عند دلتاي بالوجود البشري في حد ذاته من حيث تمظهره في التاريخ ولقد تجلى بطريقة علنية حينما قام بطرح مسألة فهم الحقيقة التاريخية وبحث عن امكانيات تأويل الماضي ضمن رؤية للعالم تتبنى موقفا من الحياة،لكن ما الذي تعنيه النظرة التاريخية للعالم عند دلتاي وهيدجر؟
” تتميز النظرة التاريخية للعالم بصورة معينة بالفعل الذي يجعل من المعرفة النسبية للتاريخ هي التي تحدد الإدراك المباشر للعالم والدازاين. وتتأسس على الطابع التاريخي لتطور العالم والدازاين الإنساني”11[11]
هذا الادعاء بالعلمية التي يجب أن تتميز بها الهرمينوطيقا قام مارتن هيدجر بمساءلته رافضا إعطاء منزلة ابستيمولوجية عليا لعلوم الفكر ومدافعا على فهم الدازاين بوصفه السائل الوحيد والأول عن معنى الوجود. لقد فجر هيدجر ثورة كوبرنيكية ثانية في كتابه “الوجود والزمان” الصادر سنة 1927 وجدت تعبيراتها التامة حينما أعاد توظيف الزوج المفهومي Auslegen وverstehen وفق استعمال أنطولوجي جديد.
لم يعد فعل الفهم عند هيدجر نمط معرفة بل أصبح نمط كينونة وتمثل بالأساس في قدرة الدازاين على إلقاء إمكانياتها وتخطي وضعياتها الخاصة والاهتمام بعمق الوضعية الأساسية والتوجه نحو الوجود في العالم. وبالتالي أن يضع الدازاين لنفسه مشروعها مستقبليا يعني أن يلقي بنفسه على الحافة وأن يصير كائنا ملقى.
ما يهمنا هنا هو التأويل الذي يأتي في مرتبة ثالثة إلى جانب الوضعية الأساسية والفهم ويشكل منزلة أنطولوجية ويمثل تطويرا لتجربة الفهم مشيرا إلى عملية التوضيح explicitation والتجلي والإفصاح. ما يتم توضيحه هو خاصية التمفصلات التي يتعرض لها الدازاين من حيث هو كائن ملقى به العالم يوجود في وضعية ويعيش تجربة فهم وبالتالي يتحول إلى ذات تستجدي الفهم من الوجود وشرفة الوجود المفهوم. لقد أضحى الدازاين هو السهم الذي يلقى به في اتجاه نواة الرحى والمفتاح التأويلي للنصوص والتراث، والبحث عن شجرة أنسابه وجذوره وينابيع انحداره هاهو هيدجر يبحث عن تأسيس جديد للتأويلية خارج تربة الإبستيمولوجيا وفوق الأرضية التي تحركت فوقها الأنطولوجيا الأساسية ووطنت مفاهيمها ومنهجها.
بعد ذلك واصل هانز جورج غادامير المسيرة وحمل مشعل القول الهرمينوطيقي وثمن المقولات الهيدجرية حول تناهي الفهم والثيمة الأنطولوجية وأضاف إلى ذلك معالجة مشكل المواجهة بين التجربة الهرمينوطيقية والحاجة إلى التماسف النقدي قصد حسن استثمار المسلمات الضمنية للعلوم الإنسانية12[12].
ما قام به غادامير هو استعادة السؤال الذي كان قد طرحه ديلتاي وفق منظور مابعد هيدجري وتنزيله ضمن ثلاثة حقول كبرى هي الفن والتاريخ واللغة وزاد على ذلك في مرحلة لاحقة حقل الديني أو الإلهي .
لقد منح غادامير الأولوية للحقيقة الفنية على الحكم الذي تشكله ملكة الذوق وتبني من خلالها وعيا جماليا وأقر بأن الوعي الذي يعرضه شغل التاريخ يسبق موضوعانية الوثائق التاريخية والسير الذاتية وبين أفضلية الطابع اللغوي الكوني للتجربة البشرية على المنهاجية اللسانية وعلى الأبعاد العلاماتية والدلالية.
كما دعا إلى عرض مملكة الأشياء على المخزون اللغوي للمتحاورين عبر لعبة الأسئلة والأجوبة وخوض غمار التجربة اللغوية والنظر إلى العلاقات بين الذوات عبر وساطة الرموز وبمحاورة عوالم النصوص.
لقد قام غادامير بتجميع شروط نظرية تأويلية ولكن هذه المرة وفق منظورية جديدة وهي احتياطي الحقيقة والمتثمل هنا في شيء النص والذي يسبق ويحتوي مسائل المنهج وبالتالي رفض القول بالتعارض بينهما.
في هذا المقام ينتبه ريكور إلى أن نظرية التأويل لم تأخذ في فرنسا المكانة الهامة التي لقيتها في ألمانيا والأسباب التي تعود إلى صعوبة تأسيس نظرية عامة في التأويل على نظرية عامة في الفهم في اللسان الفرنسي وذلك نتيجة تعثر الترجمة والخلط بين الكانطية والرومنطيقية وانشداد مفهوم التأويل في الثقافة الفرنكفونية إلى الأثنولوجيا البنيوية عند شتراوس وسيميائية غريماس وبارت والتحليل النفسي عند لاكان.
غني عن البيان ظهور إرادة في العلوم الإنسانية تسعى إلى تحقيق استقلالية علوم التأويل عن علوم الطبيعة لدي علوم العلامة التي تحاول فك الارتباط مع النموذج الطبيعي والارتقاء من الأشكال المموضعة للحياة الفكرية إلى إبداعية أصيلة للحياة من خلال تمفصلات مبتكرة داخل علوم العلامات واللغة العادية.
يحاول ريكور ، في هذا الصدد، تشكيل مثلث منهاجي دائري يتكون من أفعال لغوية للتفسير والفهم والتأويل وذلك بتشييد اختصاص يتضمن ويستوعب المواجهة بين التفسير البنيوي والفهم الوجودي وجعل نظرية التأويل تعود إلى الإبداعية الرومنطيقية وتنبه إلى الإضافات الجديدة في العلوم الإنسانية وتستفيد من نظرية الفعل ونظرية النصوص السردية ونظرية التاريخ المنحدرة من فلسفة اللغة التحليلية.
على خلاف الهرمينوطيقا الألمانية التي كرست التعارض بين التفسير والفهم تحركت نظرية التأويل في الثقافة الفرنسية فوق أرضية مغايرة ونادت بالجدلية بين فعل التفسير وفعل الفهم ضمن تجربة تأويلية. ولقد تأثرت بالشكل الذي قبلت به الفلسفة الفرنسية فكر هيدجر الأنطولوجي ومزجته بمسحة نتشوية ولم تخض مواجهة مع السير الذاتية ومع علوم الفكر بل مع التراث الميتافيزيقي والمسلمات الأنطو- ثيولوجية. ولقد راهنت على المصير الجديد الذي ينتظر النمط الغربي في التفلسف وغضت الطرف عن الإشكال الذي تطرحه العلاقة بين الأنطولوجيا والإبستيمولوجيا وفتحت بذلك ورشة كبيرة أمام التأويل حينما طبقته على النصوص الكبرى للتراث13[13] les grands textes de la tradition وحاولت تفكيك الواجهة النسقية لكي تحرر الفكر الحقيقي من كل السلاسل المكبلة والعراقيل الذاتية التي تمنعه من النقد والتجريب والإبداع.
على هذا المنوال قامت الهرمينوطيقا بقراءة وإعادة قراءة النصوص الكبرى للفلسفة les grands textes de la philosophie وخاصة عند الإغريق والعرب والأوروبيين محاولة التحرر من الإمكانيات اللغوية المهدورة لإنتاج المعنى والطاقات غير المستثمرة التي ارتبطت بالحجة الكسولة التي ترتب عنها إعلان نهاية الميتافيزيقا. فماهو المستقر الأساسي الذي أرست فيه عملية إعادة بناء الاختصاص التأويلي في حضارة إقرأ؟
الإحالات والهوامش:
[1] Ricœur (Paul), Lectures 2, la contrée des philosophes, éditions Seuil, Paris,1992,p.456.
[2] العسكري (أبو هلال)، الفروق في اللغة، الباب الثاني ، من قبيل الكلام التفسير والتأويل، نسخة محملة
[3] سعيد جلال الدين ، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، تونس، طبعة أولى، 1998. ص90.
[4] سعيد جلال الدين ، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، المرجع نفسه، ص.90.
[5] Ricœur (Paul), Lectures 2, la contrée des philosophes, op.cit.,p.451.
[6] Schleirmacher, Herméneutique,1809-1810,Traduit par C. Berner, Paris/ Lille, le Cerf –PUL, 1987.
[7] Geisteswissenschaften
[8] Théorie de la compréhension
[9] Expression-Ausdruck
[10] Diltey Wilhelm, le monde de l’esprit tome I, édition Aubier, Paris 1947.
[11] Heidegger (Martin), les conférences de Cassel 1925, traduit par J-C Gens, édition Vrin, Paris,2003,p143.
[12] Gadamer J-H, Vérité et Méthode. Les grandes lignes d’une herméneutique philosophique (1960), une nouvelle traduction par Pierre Fruchon, Jean Grondin et Gilbert Merlio, Edition du Seuil, Paris, 1996.
[13] Ricœur (Paul), Lectures 2, la contrée des philosophes, op.cit,p.455.
المصادر والمراجع:
Schleirmacher, Herméneutique,1809-1810,Traduit par C. Berner, Paris/ Lille, le Cerf –PUL, 1987.