18 ديسمبر، 2024 11:10 م

من جوانب التخطيط والإدارة في سيرة سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم)

من جوانب التخطيط والإدارة في سيرة سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم)

إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مَعْلم بارز في جميع جوانب الحياة ونلحظ من سيرته العطرة جانب التخطيط وإحكام الإدارة ودقة التنظيم في كل مراحل دعواته: فإذا نظرنا ـ مثلاً ـ إلى الهجرة النبوية نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع لها خطة احتوت على هذه العناصر: تحديد الهدف، تنظيم الوسائل، رسم أسلوب التنفيذ، محاولة التنبؤ بالمستقبل، ولذلك نلاحظ الآتي:
تحديد الهدف:
لقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم هدفه في الهجرة وهو مغادرته هو وأصحابه مكة إلى المدينة آمنين، ثم نشر دعوة الإسلام في بيئة جديدة وإقامة دولة تقوم برسالتها في الحياة.
إن تخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة النبوية المباركة دليل واضح على أن التخطيط ضروري لمزاولة أي نشاط بشري مهما يكن نوعه، يستوي في ذلك أن يكون القائم به فرداً أو جماعة وأن يستهدف شأنا من شؤون المسلم أو شؤون الحرب وقد اتضحت رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخطيط في بناء المسجد، ودستور المدينة، وحركة السرايا، وغزواته الميمونة واتصالاته بالقبائل والدول والزعماء والملوك ولقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم التخطيط في كل مراحل دعوته السرية والعلنية وقيام الدولة إيماناً منه بأن التخطيط أساس من الأسس في إنجاح أي عمل من الأعمال، ولابد منه للبلوغ إلى المقصود وأنه ركيزة أساسية يقوم عليها هذا الدين ولذلك فإن الإسلام قد دعانا إلى الأخذ به، وجعله نظاماً لحياة المسلمين لأنه ضرورة لابد منها(1)، وهذا ينسجم مع الفهم الصحيح لمعنى التوكل على الله والإيمان بالقدر.
إن الدولة المدنية الإسلامية، تتصدى لتحقيق أشرف وأعظم إنجاز في دنيانا وهو التمكين لدين الله في الأرض ورفع الظلم وإقامة العدل، والانتصار للمبادئ الإنسانية، كالمساواة والحرية والكرامة الإنسانية، وحقوق الإنسان ……الخ.
لقد قامت في المدينة دولة توفرت لها كل مقومات الدولة وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو مؤسس هذه الدولة والحاكم فيها وهو الذي يرجع إليه في كل الشؤون، ولما اتسعت أمور الدولة، عيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم العمال الأكفاء، وكان يختار العمال أساس الكفاءة والصلاح والأمانة، ويبين للمسلمين خطورة الولاية وأنها أمانة وأن من لم يؤدِّ الواجب فيها ويأخذها بحقها كانت له يوم القيامة خزياً وندامةً وكان يحاسب العمال، كما حاسب ابن اللتبية وأنكر عليه قوله: «هذا لكم وهذا أهدي لي»(2) وبيَّن أن هدايا العمال غلول.
وكان يجري الرواتب على العمال، كما أجرى لعتاب بن أسيد أمير مكة درهماً كل يوم وبيَّن أن من حق العامل أن يتخذ بيتاً إن لم يكن له بيت، وزوجة إن لم تكن له زوجة ودابة إن لم تكن له دابة، فقال: «من ولى لنا ولاية ولم يكن له بيت فليتخذ بيتاً أو لم تكن له زوجة فليتخذ زوجة أو لم تكن له دابة فليتخذ دابة»(3).
وكان يوصي العمال كما أوصى أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل بالتيسير والتبشير، فقال: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا(4).
وكان صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه كثيراً، حتى قال أبو هريرة: ما رأيت أحداً قط أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له عرفاء كما ثبت ذلك في صحيح البخاري.
وكان زيد بن ثابت يترجم للنبي صلى الله عليه وسلم، قال زيد بن ثابت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كتاب يهود قال: «إني والله ما آمن يهود على كتاب»، قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم(5)، وكان هناك شعراء ينافحون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الدعوة منهم حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك وكان هناك خطباء منهم ثابت بن قيس، وكان هناك قادة للجيوش وكان المسجد مركز الحياة السياسية والاجتماعية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخلف على المدينة إذا غاب عنها لغزوة أو غيرها، وكان صلى الله عليه وسلم يعرف أصحابه معرفة دقيقة ويعرف ما يتميز به، الواحد منهم من المزايا، فكان يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وأقرأ في ذلك حديث أنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبيّ بن كعب، ولكل قوم أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»(6).
وكان صلى الله عليه وسلم يعيّن الأكفاء مهما تأخر إسلامهم كما عيَّن خالد بن الوليد بعد إسلامه، ولم يكن يعين من لا قدرة له على إدارة الأمور مهما كانت سابقته وفضله ولذلك قال لأبي ذر: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم»(7)، وكان لا يولي من سأل الإمارة ولا من حرص عليها، ونصح عبد الرحمن بن سمرة، قال له: «لا تسأل الإمارة»(8)، وقام النبي صلى الله عليه وسلم بعملية إحصاء، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس»، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل، فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف(9).
قال ابن حجر: وفي الحديث مشروعية كتابة دواوين الجيش وقد يتعين ذلك عند الاحتياج إلى تمييز من يصلح للمقاتلة ممن لا يصلح(10).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعيِّن الوالي فيقوم بكل المهمات القضائية والتنفيذية، ولم يكن هناك خوف من تسلط الوالي واستغلاله لسلطاته، وكان الولاة يؤمُّون الناس في الصلوات ويجبون الزكاة، فيأخذونها من الأغنياء ويوزعونها على الفقراء وكانت الموارد المالية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تقتصر على الزكاة والغنائم، والفيء والجزية، وكانت تصرف في المصارف التي حددها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت مال، بل كان يقسم الفيء من يومه.
ومن التوجيهات الإدارية المستنبطة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم :
أن التكليف بقدر الطاقة، والأحاديث في ذلك معروفة مثل حديث الصحيحين: «وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»، وحديث: «خذوا من العمل ما تُطيقون»، رواه البخاري، وقول الله تعالى:﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة، آية: 286).
أن يكون الخطاب على قدر الفهم كما قال عبد الله بن مسعود: ما أنت بمحدث قوماً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
ــ اختيار الظرف المناسب للتوجيه.
ــ تقديم الأهم على المهم.
التيسير والتبشير فقد قال صلى الله عليه وسلم: «يسِّروا ولا تعسروا وبشِّروا ولا تنفروا» (12)، وقالت عائشة رضي الله عنها: ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً (13).
التقويم الذاتي فالمرء مسؤول عن رقابة نفسه وتقويم تصرفاته «فالكِّيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع هواها وتمنى على الله الأماني» (14).