21 فبراير، 2025 2:52 م

من ثقافة الرفاق إلى ثقافة الستوريات: كيف تغيرت ملامح الزعامة السنية

من ثقافة الرفاق إلى ثقافة الستوريات: كيف تغيرت ملامح الزعامة السنية

لعبت الانتماءات الفرعية دورًا محوريًا في تشكيل مفاهيم الزعامة في العراق ورسم ملامحها، حيث تبلورت هذه المفاهيم وفقًا للرؤى المختلفة لكل مكوّن، في المقابل أسهمت الأنظمة الحاكمة بشكل كبير في صياغة هذه التصورات، بدءًا من عهد عبد الكريم قاسم، إلا أن التأثير الأكبر كان من نصيب صدام حسين، حيث رسّخ في الذهنية العراقية صورة رمزية للزعامة لا تزال راسخة في هذا اليوم، لدرجة أنها أصبحت متغلغلة في وعي المسؤولين والمواطنين على حد سواء.

أحدث صدام حسين هذا التأثير الكبير نتيجة فهمه العميق لطبيعة العراقيين وتناقضاتهم المعرفية، حيث استطاع ملامستها ببراعة، مقدّمًا نفسه في صورة تتلاءم بدقة مع سيكولوجيتهم، مما مكنه من إبراز التناقضات بإطار مزيج مؤثر، ففي الوقت الذي يظهر فيه بمظهر المدني المتحضر، محاطًا بأسرته في مشاهد تعكس الكلاسيكية والتمدن، كان الجانب الآخر من شخصيته عشائريًا ودينيًا بشكل مفرط، وبينما كان يخاطب الشعب بروح الأب الحكيم، جاءت قراراته في كثير من الأحيان متسرعة وأقرب إلى النزعة الصبيانية.

في السياق السني، كما هو الحال في سياقات المكونات الأخرى، مرت مفاهيم الزعامة والقيادة بمراحل مختلفة ومحطات متعددة ساهمت في بلورتها إلى شكلها المعاصر، نتيجة للتحولات والمنعطفات التي أسهمت في تشكيل المشهد القيادي الحالي.

تحولات الزعامة السنية

المنعطف الأول كان ولازال مرتبط بجدل الأكثرية والأقلية، حيثساهم التصور السائد عن كون السنة الأكثرية في تعزيز طموحهم للزعامة والسلطة، مما أدى ان ينحصر مفهوم القيادة والزعامة في السلطة السياسية والمؤسساتية، دون الاهتمام بأشكال أخرى من القيادة مثل الدينية أو القبلية، ونتيجة لذلك، أصبح التركيز على السلطة السياسية هو الخيار الوحيد لتحقيق الاستقرار والتأثير والطموحات السياسية والاجتماعية.

أما المنعطف الثاني، فقد تشكّل تحت تأثير صورة الزعامة الكاريزمية التي صاغها صدام حسين، والتي قامت على مزيج معقد من التناقضات، كما أشرنا في مقدمة المقال. ويتجلى هذا التأثير بوضوح لدى جميع القيادات والطامحين إلى لقب الزعامة، من مختلف الخلفيات الدينية أو الطائفية، من خلال هوسهم المفرط بتقديم أنفسهم وفق الهوية البصرية الصدامية، عبر مقاطع فيديو أو صور مملوءة بالتمجيد والاستعراض على مواقع التواصل الاجتماعي.

ثم جاء التحول الثالث بعد سقوط نظام صدام حسين، ليُنتج واقعًا جديدًا غارقًا في الضبابية، أدى إلى خلق فوضى في مشهد الزعامة وأساليب القيادة، سواء في العلاقة مع المكون السني أو مع الآخرين، حيث فقدت القيادة السنية بوصلتها وتاهت بين الانقسامات والصراعات.

وأخيرًا، أدى سقوط المدن السنية في قبضة داعش إلى تحول رابع، تمثل في البحث عن القائد المخلّص في العقل الجمعي السني، الذي يكون قادرًا على ترتيب المشهد السياسي واستعادة الهيبة المفقودة، في محاولة للخروج من أزمة الهوية والضعف التي أعقبت تلك الفترة.

واقع الزعامة السنية

نتيجة لهذا التحول الأخير، أصبح الاهتمام بمسألة الزعامة أكثر من أي وقت مضى، حتى بلغ حد الهوس لدى بعض الشخصيات السنية التي تتنافس بطفولية على هذا اللقب، دون أن يكون له أي أساس من نضال تاريخي أو إسهام فكري أو سياسي أو اجتماعي، أو حتى كاريزما مؤثرة.

فمثلاً، أحد هؤلاء الذين يسعون جاهدين لتصدير أنفسهم كزعماء، تردّد اسمه في النوادي الليلية أكثر مما ذُكر في ساحات السياسة أو ميادين الكفاح، حتى بات أسيرًا لثقافة الترند مقتنعًا بأن التأثير يُقاس بعدد الإعجابات والتعليقات على الفيسبوك، لا بالمنجزات الفعلية أو القدرة على التأثير في صناعة القرار.

أما الآخر، الذي يسعى للظهور في صورة الزعيم الشجاع، فقد انهارت محاولته الزائفة عندما ظهر في مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، مرتجفًا في أحد المطارات الأجنبية، يلوذ بشرطي المطار متوسلًا “مستر… مستر هيلب مي!” وكأنه في مواجهة جيش من المقاتلين، لكن الواقع كان أبسط من ذلك بكثير، حيث لم يكن يطارده سوى مواطن عراقي متذمر يحمل هاتفه الجوال، لا أكثر!

ومن سخرية القدر، أن يتجمع كلاهما في اختبار لزعامتهم يكشف حجم الفجوة بينهم وبين حقيقة الزعامة، حين جلس الأول أمام أردوغان كأنه تلميذ خجول أمام معلمه، بلا هيبة ولا حضور، بينما لم يجد الآخر وسيلة لإثبات قوة علاقته بأردوغان سوى محاولة تقبيل خده، في تصرف مخجل يفتقر إلى أبسط قواعد اللياقة الدبلوماسية، حتى أن ملامح أردوغان في تلك اللحظة بدت وكأنها تتساءل بلهجة عراقية: “شبيه هذا؟!”

ورغم هذه المشاهد المخجلة، لا تزال مكاتبهم الإعلامية تحاول تقديم صورة استعراضية لهذه الزعامات الكارتونية، سواء من خلال نشر مقاطع “الريلز” وأغاني التمجيد مثل “هلا بالهيبة وراعيها” التي تغطي صورهم الشخصية، أو من خلال نشر صورهم على جدران مكاتبهم الحزبية، أو مضايف عشائرهم الموالية، أو حتى تعليقها على أعمدة الشوارع المكتظة بالأسى.

محاولين تلافي ما يمكن تلافيه من إخفاقات تاريخية أو سياسية تحد من ترقيهم إلى هذا اللقب، عبر تقديمهم في صور استعراضية جديدة لعلها تؤثر على الجماهير، فقد حاولت مكاتبهم الإعلامية ولا تزال تحاول في هذه الفترة خصوصًا عرض صورة الأول تارةً بالرمزية الصدامية، وتارةً باعتباره قائدًا للإعمار، مع عبارات تمجيد من عشيرة فلان أو قبيلة فلان، في تأكيد على أن الزعيم باقٍ في القلوب رغم الإقالة.

أما الثاني، وبعد أن فشل مصممو “التيك توك” في مكتبه الإعلامي من اقتطاع كلمة له دون ارتباك أو تعثّر لاستخدامها في مقاطع “ريلز” الهيبة وراعيها التي يفضلها سموه، قاموا بتقديمه بصورة أخرى باعتباره مناضلًا إسلاميًّا حداثيًّا من خلال صور تجمع صورته مع عبارات تضامنية مع فلسطين. لكن سرعان ما أدركوا فشل هذه الاستراتيجية مرة أخرى، فهو لم يصلي في جرف الصخر كما وعد سابقًا، فكيف سيصلي في فلسطين، لذا لجأوا إلى حيلة استعراضية أخرى، وهي عرض زيارته لمعرض الكتاب على أمل أن تضفي بعض العمق على صورته، وهو يقلب صفحات أحد الكتب.

ومع استمرار محاولات مكاتبهم الإعلامية المتكررة لصناعة الزعامة، يظل منذ أول سطر في المقال سؤال يراود العقل، حاولت إخفاءه جاهداً حتى وصلت إلى نهاية المقال لأسمح بطرحه،والسؤال هو هل أصبحوا في ذهن المتلقي فعلاً زعماء كما تروج صورهم، هل هم حقًا يعتقدون أنهم زعماء، أم أنهم حين يقفون أمام المرآة، يدركون الحقيقة التي لا يستطيع التصفيق إخفاءها، تلك الحقيقة التي نراها نحن بكل وضوح.

أحدث المقالات

أحدث المقالات