22 ديسمبر، 2024 8:15 م

من تظاهرات الأقوياء إلى اعتصام الأذكياء

من تظاهرات الأقوياء إلى اعتصام الأذكياء

من العجيب أن العديد من الكتل السياسية باتت تطالب بما يطلبه المتظاهرون من إصلاحات وكأنها المتضرر الأول من سياسات الحكومة. فهل هي صحوة ضمير؟ أم مكر سياسي يجري بالمباركة البابوية؟
أننا هنا لو طبقنا الحديث القائل أحمل أخاك على سبعين محمل على نوايا الساسة لاحتجنا إلى مئات الآلاف من المحامل, بعدد الدعايات الانتخابية والميزانيات المسروقة والمشاريع الوهمية وغسيل الأموال وصفقات المحاصصة, فلو وضعنا هذه الوعود الجديدة مع ما خدعنا به في مئات الخطب والوعود الكاذبة لأصبحت نسبة الصدق واحد بالألف أو أقل وهل من المنطق أن يرجّح المرء حصول هذه النسبة الضئيلة ويبني أمله عليها إذا كان مؤمناً والحديث يقول لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين, فقط فلنفكر بعدد اللدغات التي لُدغنا بها لمدة ستة عشر عاماً!
إذن فمن الحكمة أن الترجيح الصحيح هو الأخذ بالنسبة الأكبر وهي عدم المصداقية, فنقول أنها نفس اللعبة والخداع يمارس من جميع الأطراف التي أنشأت هذه العملية السياسية والأطراف التي باركت لها.. لكن الذكاء هو أن نعرف كيف يجري هذا الخداع وكيف يُمارس هذا المكر وبأي طريقة تُفبرك وتُصاغ الأكاذيب لتُنقل على أنها واقع ذو مستقبل مشرق .
وعليه ما ينبغي أن نتسلح به هو المعرفة قبل كل شيء, فأن الوسيلة الأساسية التي يغلف بها ذلك المكر هي المؤسسات الدعائية والإعلامية, ولهذا نرى أنهم ينفقون المليارات على الإعلام ويدفعون مبالغ طائلة لأشخاص من مختلف التوجهات من بين محللين سياسيين وناشطين مدنيين ورجال دين وغير ذلك لنقل طاقة الحركة الجماهيرية بكل ما تنتج من آثار لمصلحة نفس الكتل داخل العملية السياسية.
ومن هنا فهذه الصيحات والدعوات التي نسمعها تؤازر المتظاهرين وتحاول تشخيص الحلول من نفس التيارات السياسية ما هي إلا محاولات وصراع إعلامي لخلق قناعات داخل المجتمع بصورة حل لا يخالف توجه الجمهور ظاهرا بل ينبغي أن يكون أكثر حماساً وأعلى همة وهذا هو الذي يعرف بركوب موجة التظاهرات, ذلك ليسبقوا وعي المتظاهرين المتنامي, لأن التظاهر سيمثل ثقافة وقفزة نوعية وتلاقح فكري في تشخيص الخلل وإيجاد الحل اعتماداً على حالة المعارضة بدلاً من حالة تبعية العقول والتفكير بالنيابة.
ولنعلم أنه لا يوجد قوة في العالم تستطيع أن تسخّر أمة إلّا بالاعتماد على نمط ثقافتها ونوعيته, واختصاراً وكتشخيص للحالة التي نمر بها ينبغي أن نعرف أولاً الحالة الثقافية والتقليدية للوضع في العراق, فالخطاب والدعاية الإعلامية وتشكيلتها بحسب الوعي المجتمعي تنقسم إلى.
أولاً: إعلام تابع للسلطة وكتلها المستفيدة من العملية السياسية ومؤسسات تعلقت بها ورهنت سمعتها بطبيعة العمل السياسي وتورط بعض رجالها بصفقات ومحاصصة مع الأحزاب الحاكمة كمؤسسة الأوقاف ومن خلفها .
وهذه القسم يعمل جاهدا على خلق حالة من البراغماتية عن الوضع بصورة عامة والمطالب بصورة خاصة في محاولة لتذويبها داخل نفس العملية السياسية, والصورة التي يريد أن يخلقها هي أنه مادام التظاهر مشروع جداً ومكفول دستورياً وتلبية المطالب أمر لا مفر منه وينبغي أن تعمل عليه الكتل جاهدة لتلبية ما تريده الجماهير المتظاهرة, فالنتيجة تكون أن ما نشهده ليس أثر من آثار الانحطاط والدمار, وإنما هو قانون طبيعي من سمات البلدان الديمقراطية الراقية ولا ينبغي أن يُخل بمستقبل العملية السياسية. وكمحاولة لترسيخ هذه الصورة المخادعة يتم مخاطبة نفس الحكومة ورموز العملية السياسية طالبين منهم الإصلاح وتلبية مطالب الجمهور.
ثانياً: طلبات تقليدية لمتظاهرين لازالوا تحت تأثير المخدر الذي كان يُمارس عليهم منذ ستة عشر عاماً وأكثر هؤلاء ممن صبغوا بالحياة المسلكية وتطبعوا على نمط معين من العيش فلا يفهمون من الإصلاح أكثر من زيادة في المرتبات وإيجاد عدد من الدرجات الوظيفية.
وهؤلاء رغم أنهم رافضون للوضع الحالي ورغم أنهم يدركون أن هذه الكتل السياسية هي السبب في دمار البلاد إلا أنهم واقعون في شراك تأثير إعلام السلطة, فمحدودية تصورهم للإصلاح لا تتجاوز ابعد من أطر العملية السياسية ورموزها وهذا الأمر يجعل من السهولة للمؤسسات الإعلامية تذويب مطالبهم داخل مشروع العملية السياسية, بل جعلها رصيدا للتنافس بين نفس الكتل.
ويوجد في هذا النمط من المجتمع حالة سلبية جداً وهي أن جل تفكيرهم يدور مدار الأشخاص بل هم على مر التاريخ سبب عبودية الشعوب وتخلفها, فما أن يسقط في نظرهم شخص وقائد رمز حتى يصنع الإعلام لهم رمزاً أخراً وشخصية جديدة, ولهذا نرى على سبيل المثال أن العديد منعهم بمجرد اختلاف احد القيادات العسكرية مع السلطة السياسية ومع تركيز إعلامي بسيط صيغ لهم منه رمزاً وطنياً, مع العلم إن الرجل كان يمارس وظيفته المناطة إليه وأختلف مع السلطة الحاكمة لأجل وظيفته وليس لأجل فساد الحكومة.
وبدراسة مبسطة سنعرف لماذا أن كل جهة تريد الإبقاء على شكل العملية السياسية, تحاول زج العدد الأكبر من المتظاهرين مع هذه الفئة وتكثير سوادهم, بل تدفع بشخصيات دينية وعشائرية للتصوير والظهور والتبويق الإعلامي معهم, ذلك لتخلق رأياً عاماً دعائياً داخلياً وخارجياً من خلال هؤلاء بأن حجم المطالب لا يتعدى حلقة العملية السياسية ولا يتمرد عليها.
ثالثاً: فئة تعبر عن مجتمع قد تحرر من نمط القائد الرمز وبدأ ينتقل إلى احترام العقل والمنطق والحوار بعيداّ عن عقلية المؤامرة, يميز الإنسان بمقدار ما يمتلك من أفكار.
والحقيقة إن هذه الفئة هي التي تشكل خطراً وتحدياً لكل سلطة لا تؤمن بالتغيير, ولهذا فضد هؤلاء تتردد كلمة دائمة على اللسان الإعلامي للسلطات الحاكمة وهي كلمة “المدسوسين” فهذه الفئة لا سبيل لركوب موجتها كالفئة الثانية ولا يمكن أقناعها ببعض المُنح.
وقد برز هؤلاء بشكل واضح في التظاهرات الأخيرة للجماهير الشبابية والعديد أيضا حتى من كبار السن ومن أكاديميين وغير ذلك وهو ما يمثل أملا كبيراً بوجود تغيير جذري, لكن يبقى الخطر الكبير على هذه الفئة من المجتمع أنها عرضة للقتل وللاغتيالات والتشريد والتنكيل وممارسة الإجرام والاضطهاد بكل أنواعه كلما توسع عددهم وفرض نفسه.
وما ينبغي أن نعرفه كقانون طبيعي إن هذا الاضطهاد بالنتيجة إذا ما استمر سيقضي على فكرة المشروع الواعي لدى هؤلاء ليحوله إلى نمط من المعارضة الذي يطلب التغيير بكل السبل .. فمثلاً إن الذين يحكمون اليوم كان العديد منهم بالأمس يؤمنون بوطن آمن يسوده السلام, لكنهم نتيجة الظلم والتهجير والتنكيل الذي لاقوه تحولت عقلياتهم إلى عقلية معارضة ناقمة انبطحت لذلك أما القوى الخارجية غاية الانتقام فقط.. فإذن لابد من حماية الشباب المنتفض من القتل والتنكيل كي لا تتكرر المأساة.
وهنا يجب أن نكون أذكياء ونعرف خارطة الطريق لذلك قبل أن يرسمها الخارج ألينا داخل دور المخابرات مبطنة بمشاريعه. وهي قبل أن يتحقق أي مطلب يجب إعلان حسن النية بتأمين المتظاهرين وخلاص كل مظلوم وعودة كل معارض في الخارج أو الداخل والذين شردوا نتيجة تهم كاذبة أو خوف من بطش المليشيا ذلك لإقامة مشروع قائم على فكرة المعارضة السلمية وتنافس البرامج دون محاصصة تُسيس القانون لصالح الفساد وهذا هو الذي ينبغي أن يسبق حل الحكومة والبرلمان وتعديل الدستور.