في غضون اشهر قلائل زار المملكة العربية السعودية اربعة مسؤولين سياسيين رفيعي المستوى، وهم، رئيس الجمهورية فؤاد معصوم، ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري، ووزير الخارجية ابراهيم الجعفري، والنائب الاول لرئيس مجلس النواب الشيخ همام حمودي.
وهذه الزيارات جاءت بعد تشكيل الحكومة العراقية الجديدة برئاسة حيدر العبادي قبل اكثر من ثلاثة شهور، اي جاءت في ظل اجواء ومناخات سياسية مختلفة الى حد كبير عن الاجواء والمناخات التي سادت خلال الاعوام السابقة.
حقائق!ّ
وقد انطلق ذلك الحراك العراقي العالي المستوى تجاه الرياض من جملة حقائق، من بينها:
-ان العلاقات بين بغداد والرياض اتسمت منذ سقوط نظام صدام وحتى الان بالكثير من التشنج والاحتقان وغياب الثقة والتدخلات السلبية من جانب الرياض، ولم تفلح المبادرات العراقية في جعل المملكة تعيد النظر بمواقفها وتوجهاتها، وتكون اكثر مرونة واعتدالا وانفتاحا.
-شئنا ام ابينا، تعد المملكة العربية السعودية طرفا اقليميا فاعلا ومؤثرا في المنطقة كما هو الحال مع اطراف اخرى مثل ايران وتركيا ومصر، وربما اطراف اخرى، وبناء علاقات ايجابية معها قائمة على اساس المصالح المتبادلة والقواسم المشتركة، لايعد ضرورة للطرفين فحسب، بل انها ضرورة ملحة لعموم المنطقة، لاسيما وان الظروف والاوضاع القلقة والمرتبكة التي تشهدها تتطلب العمل الجاد لنزع فتيل الازمات، وتخفيف حدة التوترات لتجنب المزيد من الكوارث والنكبات.
-ان الارهاب الداعشي الذي استباح جزءا غير قليل من الجغرافيا العراقية، خصوصا ذات الهوية المذهبية السنية، لاتقتصر اجنداته ومشاريعه التدميرية على العراق فحسب، ولاتقتصر على اتباع المذهب الشيعي دون سواهم من اتباعهم المذاهب والاديان الاخرى، ومثلما هو العراق-ومعه سوريا-مستهدف اليوم، فأن الدور يمكن ان يأتي في الغد على السعودية والاردن ومصر ولبنان ودول اخرى، وهذا يعني ان من مصلحة الرياض ان تتعاون بجدية وصدق للتصدي لخطر داعش، بدلا من دعم ذلك التنظيم انطلاقا من حسابات وعقد طائفية ضيقة، او بأدنى تقدير التزام الصمت حياله.
ولعل ما اوضحه وزير الخارجية العراقي ابراهيم الجعفري من حقائق في مؤتمر جدة لدعم العراق في مواجهة الارهاب الذي عقد في الحادي عشر من شهر ايلول-سبتمبر الماضي، يعكس الواقع القائم وماينبغي على الاخرين فعله، اذ قال “كانت لنا فرصة أن ننقل حقيقة ما يجري في العراق، وأن المسموعات والانعكاسات الإعلامية بأن داعش هي حركة مقاومة تـعبر عن رأي السنـة، فقد تم إيضاح الحقائق لهم-اي للوزراء العرب-وتفنيد هذه الادعاءات الإعلامية، حيث ان داعش استهدف ثلاث محافظات أساسية في العراق، وهي محافظات سـنية -الموصل والأنبار وصلاح الدين، علاوة على ان المتضررين النازحين سواء أكان نزوحهم من محافظة إلى أخرى، أم نزوحاً داخليا، هم في غالبيتهم من المكون السني”.
وقد اطلق تنظيم داعش اشارات بعضها ضمنها والاخرى صريحة عن حقيقة نواياه ومخططاته التوسعية التي لاتستثني السعودية ومختلف امارات الخليج.
ماذا فعلت الرياض؟
وفي مقابل الحراك العراقي العالي المستوى حيال الرياض، هل بادرت الاخيرة الى اتخاذ خطوات واطلاق مبادرات ايجابية حقيقية، لتنطلق مسيرة ترميم واصلاح العلاقات بصورة متوازية من كلا الطرفين؟.
مافعلته الرياض حتى الان هو التالي:
-اصدر مجلس الوزراء السعودي في منتصف شهر ايلول-سبتمبر الماضي بيانا رحب فيه بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة وحصولها على ثقة مجلس النواب العراقي، واعرب عن امله بأن “يساهم تشكيل الحكومة الجديدة في عودة الأمن والاستقرار للعراق وترسيخ الوحدة الوطنية والتلاحم بين مختلف مكونات شعبه لبناء عراق آمن ومزدهر”.
-وعد وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل نظيره العراقي قبل اكثر من ثلاثة شهور، وعلى هامش اجتماع جدة، بقرب افتتاح السفارة السعودية في بغداد، علما ان الرياض عينت في بدايات عام 2012 سفيرا لها في العراق غير مقيم، مقره العاصمة الاردنية عمّان.
-طلب المسؤولون العراقيون الذين زاروا السعودية مؤخرا، نظرائهم السعوديين بالقيام بزيارات مماثلة للعراق، وقد وعدوا بأن يحصل ذلك، بيد انه حتى الان لم تلح اي بوادر في الافق على حدوث زيارة قريبة لوزير الخارجية السعودي او اي مسؤول رفيع المستوى الى العراق.
-صرح وزير المالية العراقي هوشيار زيباري، الذي كان ضمن الوفد المرافق لرئيس الجمهورية فؤاد معصوم، الذي زار السعودية في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني-نوفمبر الماضي، “ان وفدا سعودياً سيزور بغداد قريبا للوقوف على الاوضاع في العراق وبعدها يخرج بتقرير عنها وعرضه الى حكومة بلاده، ووفق هذا التقرير ستنظر السعودية ما هو الدعم الذي ينبغي تقديمه الى العراق”. والى الان لم يأت اي وفد الى العراق، ويبدو ان مايشغل اهتمام الرياض اكثر من اي شيء اخر، هو استعادة السعوديين المعتقلين في السجون العراقية، لتورطهم بعمليات ارهابية في العراق.
-بحسب تقارير خاصة، اجتمع الرئيس فؤاد معصوم حينما زار السعودية، بنائب وزير الداخلية السعودي عبد الرحمن الربيعة، ورئيس جهاز الاستخبارات السعودي خالد بن بندر وبحث معهما بشكل منفصل التركيز على تبادل المعلومات في الجانب الامني فيما يخص الحرب على الارهاب والتنسيق بين الجانبين، وابدى المسؤولين المنيين السعوديين الاستعداد والرغبة الجادة، بيد ان شيئا ذا قيمة على الارض لم يظهر فيما بعد.
-لم تتغير نبرة خطاب مجمل وسائل الاعلام السعودية او الممولة من المال السعودي حيال العراق، وهذا يتجلى واضحا في قناة العربية، وصحيفتي الحياة والشرق الاوسط وغيرهما. ولعل المتلقي يستطيع ان يلمس بوضوح النبرة الطائفية في ذلك الخطاب الذي يحمل بين طياته تحذيرات من خطر الشيعة، وتباكيا وقلقا على مصير السنة في العراق.
ولاينفصل ذلك الخطاب، بأي حال من الاحوال مع حقيقة التوجهات والمواقف السعودية ازاء مايجري من احداث في المنطقة، من قبيل الازمة السورية، والحراك اليمني، والملف النووي الايراني.
غياب بوادر التغيير الحقيقي
ويخطأ من يتصور ان السعودية يمكن ان تراجع وتعيد النظر في مواقفها وتصحح مسارات سياساتها وعلاقاتها في المنطقة، لاسباب عديدة، من بينها، انها محكومة بعقدة طائفية مذهبية لاتستطيع الخلاص والتحرر منها بسهولة، وحتى ان تعاطت ظاهريا بصورة ايجابية، فأنها تصرفاتها وتحركاتها الخفية ستبقى سائرة باتجاهات معاكسة.
وعلى فرض ان المؤسسة السياسية الحاكمة قررت ان تصحح-رغم غياب اية بوادر او ملامح للتصحيح-فأنها بلا شك ستصطدم بالمؤسسة الدينية “الوهابية” التي تكفر مختلف المذاهب الاسلامية الاخرى.
ومن بين تلك الاسباب، ان الموقف السعودي “السلبي” ضد تنظيم داعش، لايمثل موقفا مبدئيا استراتيجيا ثابتا، بقدر ما هو انعكاس لخلافات وصراعات وتقاطعات بين قوى اقليمية مثل السعودية وقطر وتركيا والامارت ومصر، قد تتغير في اوقات لاحقة. لاسيما وان “داعش” ولد من رحم تنظيم القاعدة، والاخير نشأت بذرته الاولى في السعودية قبل غيرها.
يبقى من المهم والمفيد القول، ان حسن النوايا العراقية، والاندفاع والحماس لفتح صفحة جديدة مع الرياض امر جيد، لكن لابد من استحضار كل المواقف والتوجهات والسلوكيات السعودية، بقديمها وجديدها، بظاهرها وباطنها، حتى لاتصطدم بغداد فيما بعد بحقائق مؤلمة ونتائج غير سارة.