مع نهاية العقد الاخير من القرن العشرين، ظهرت اتجاهات واضحة في حركة مجتمعات العالم المعاصر تجسدت اكثر وهي تدخل العقد الاول من القرن الواحد والعشرين، احد اهم وابرز هذه الاتجاهات هو النزوع الى التحول الديمقراطي. ففي السنوات الثلاثين الاخيرة فقط رأينا مجتمعات عديدة تتحول من انظمة حكم شمولية او ديكتاتورية او ذات حزب واحد الى انظمة حكم تعددية ديمقراطية. ولا نقصد ان هذه المجتمعات قد استكملت تحولها الديمقراطي او ان هذا التحول يأخذ بالضرورة الصيغة الليبرالية. ولكن الذي نقصده هو ان عملية التحول قد بدأت تسير ببطء، ولكن القاسم الاعظم المشترك بينها جميع هو انفتاح انظمتها على الديمقراطية واتساع حجم المشاركة السياسية، وقبول الرأي الآخر، وتشجيع حرية التعبير في الصحافة ووسائل الاعلام. كما ان هذا التحول لا يتم دائماً بشكل سلمي ولكنه قد يأخذ شكل انتفاضات شعبية وقد يتخلله بعض صور العنف او العصيان المدني، كما حدث في بعض المجتمعات الاسيوية واللاتينية واوروبا الشرقية.
ان معظم مجتمعات العالم التي اخذت بنظام الحزب الواحد كانت ترى في ذلك ضرورة او حكمة لتكريس استقلالها الوطني او لانجاز تنمية اقتصادية سريعة او لتحقيق العدالة الاجتماعية، وقد شاع في الخمسينات والستينات من القرن الماضي طروحات فحواها ان التعددية السياسية او الديمقراطية تعرقل او تعطل هذه الاهداف وخاصة في المجتمعات العربية التي حصلت على استقلالها حديثاً –وقتئذ- وتريد ان تلحق بركب المتقدمين. كما شاعت طروحات تقول ان اغلب هذه المجتمعات كانت غير مؤهلة وغير ناضجة للممارسات الديمقراطية، وليس هنا مجال حسم صحة هذه الطروحات.
ولكن الشاهد هو ان مسيرة التطور الاجتماعي/ الاقتصادي للعديد من هذه المجتمعات قد الغت الشكوك على استمرار صحة هذه الطروحات في الوقت الحاضر. وهذا هو السبب في ان عدداً متزايداً من هذه المجتمعات قد بدأت تحولها الديمقراطي في السنوات القليلة الماضية.
بدأت المجتمعات العربية ذات انظمة الحزب الواحد تدخل في ظل المتغيرات الديمقراطية الدولية في ازمة شرعية. فنظام الحزب الواحد قد استنفذ اغراضه التاريخية التي ربما كانت قد اقتضتها الظروف الداخلية والاقليمية والدولية منذ (كذا) عقد من الزمان. ففي السنوات التالية للاستقلال كانت هناك تحديات عديدة تجابه المجتمعات العربية، منها تكريس الاستقلال وبناء مؤسسات حديثة، وتشييد البنية الاساسية وانجاز المراحل الاولى من التنمية الاقتصادية/ الاجتماعية، واعتقد الكثيرون حينها ان التعددية الحزبية او الديمقراطية بشكلها الليبرالي ليست هي انسب الصيغ لمجابهة هذه التحديات.
ودعم من هذا الاعتقاد، ان المجتمعات العربية التي كانت قد اخذت بالتعددية الليبرالية في فترة ما بين الحربين العالميتين او التي اخذت بها بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن سجل انجازها التنموي هزيل للغاية، واهم من هذا وذاك كانت المسألة الاجتماعية تتفاقم بشدة، وظلت الممارسات الديمقراطية الليبرالية في هذه المجتمعات محصورة في ابناء الطبقات العليا من المجتمع، فهم فقط الذين يكّونون الاحزاب ويتنافسون فيما بينهم على السلطة، بينما الاغلبية الساحقة من ابناء الطبقات الوسطى والدنيا كانوا مغيبين عن المشاركة السياسية، وكانت مطالبهم الاجتماعية مهملة تماماً او شبه مهملة. لذلك، حينما وقعت الانقلابات العسكرية او الانتفاضات الوطنية في عدد من هذه المجتمعات وغيرت من انظمة الحكم، كانت التعددية الحزبية هي اول ضحايا هذا التغيير وكان الغاء التعددية اما لصالح حزب واحد او لا احزاب على الاطلاق.
واستقبلت جماهير الطبقات الدنيا هذا الالغاء بالترحيب واخذت الطبقات الوسطى موقفاً محايداً في البداية. فمعظم ابناء الطبقات الوسطى العربية شأنهم شأن غيرهم من مجتمعات اخرى ينزعون الى الديمقراطية الليبرالية من حيث المبدأ، ولكن خبرتهم المباشرة مع انظمة الحكم الليبرالية العربية لم تكن خبرة واسعة، وكان دورهم فيها هامشياً، فان معظمهم لن يأسف او يندم على اختفاء الاحزاب الليبرالية القديمة التي كان يقودها ابناء الذوات والباشوات وكبار الملاك.
لقد كانت اغلب انظمة الحزب الواحد التي حلت محل الانظمة الليبرالية في الوطن العربي ذات اهتمامات والتزامات وطنية وقومية واجتماعية واضحة، وكانت الشعارات التي رفعها والممارسات التي بادرت بها تخدم مصالحهم وتحقق طموحات جماهير الطبقة الوسطى والكادحة.
وانجزت هذه الانظمة بالفعل الشيء الكثير… ولكن بعد (كذا) سنوات من تجربة انظمة الحزب الواحد، بدأت الشعارات تفقد بريقها، وبدأت الانجازات تتباطأ وتتوقف، وفي نفس الوقت بدأت حدة القهر الداخلي تتزايد، وبدأت المشكلات الداخلية تتفاقم من جديد، واسوأ من ذلك تم استدراج معظم هذه الانظمة الى صراعات داخلية او اقليمية مسلحة وممتدة، كل هذا جعل هذه الانظمة تدخل في مأزق… ولم يكن هناك من سبيل للخروج من هذه المآزق الا بالتحول نحو الديمقراطية.
وقد ادركت بعض انظمة الحزب الواحد هذه الحقيقة على مضض، وسمح بتعددية حزبية تدريجية، وفي الغالب شكلية، ورفضت انظمة اخرى ادراك المآزق وتلكأت طويلاً في السماح حتى بالتعددية الشكلية، وكان نصيب بعضها نتيجة هذا التلكؤ ان شهدت بلدانها حركات شعبية واسعة انتهت اما باقتلاع للنظام او بتغيير داخل النظام.
[email protected]