18 ديسمبر، 2024 4:07 م

من الهلال إلى البدر الشيعي (المنتظر)

من الهلال إلى البدر الشيعي (المنتظر)

يُعرّف اللغويون العرب كلمة “غوغاء” بأنها الجلبة واللغط والضوضاء. ويضيفون إلى ذلك قولهم، “إن أكثر من يثير الجلبة واللغط هم الرعاع”. وعن كلمة “رعاع” يقولون إنهم “الحمقى والفوضويون”، و“من يرى ظواهر الأمور ولا يريد أن يرى عواقبها”.

وبلا فخر، كان شعبنا العراقي، وما زال، أكثر شعوب المنطقة خبرة بهذه الخامة من الكائنات البشرية الغلط التي تُسيّرها خرافة، وتُشكل عقلها إشاعة، ولا تنظر إلى الدنيا من حولها بالفطنة والتروي والدراسة والكياسة والسياسة، بل بالتياسة والخساسة والشراسة واختلال المقاييس.

والمشكلة أن أحباب الحشد الشعبي العراقي يغضبون عندما يُنعت الحشدُ الشعبي بالغوغائية، ويرفضون القول عنه إنه لا يختلف عما سبقه من كيانات فوضوية سابقة مشابهة فلتت من عقالها، وتوهمت بأن حبالها وسيوفها وخناجرها ومفخخاتها قادرة على ليِّ عنق الزمن، وكفيلة بمنحها الجمل بما حمل، إلى أبد الآبدين.

ولكن قادة الميليشيات المنضوية تحت لوائه، بتصريحاتهم النارية، وتهديداتهم الثأرية، وأحلامهم العنترية، يعطون الدليل بعد الدليل، يوما بعد يوم، على أنهم أسوأ أنواع الفوضويين والغوغائيين والرعاع.

فالمدعو قيس الخزعلي، وهو أبرز قادة ذلك الحشد وزعيم عصابة أهل الحق، في آخر تصريحاته الفاجعة يعدنا بأن “الهلال الشيعي” الإيراني سيصبح “القمر الشيعي” الإيراني، عن قريب.

يقول “بظهور صاحب الزمان ستكون القوات قد اكتملت بالحرس الثوري في إيران، وحزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن، وعصائب أهل الحق وإخوانهم في سوريا والعراق لتشكّل البدر الشيعي، وليس الهلال الشيعي”.

والحشد الشعبي، في بيان رسمي صادر عنه، يتوعد القوات الأميركية في حال إصرارها على البقاء في العراق بعد داعش، لأنها “سوف تتسبب في تردي الوضع الأمني في مناطق غرب العراق”، لكن “تواجد مستشارين عسكريين إيرانيين وروس أمر جيد ويخدم المعركة على الإرهاب”.

وقبل الحشد الشعبي، وقبل قيس الخزعلي، هذا نائب وزير الخارجية الإيراني ماجد تخت رفشاني يهدد قواعد الولايات المتحدة في العراق ببنادق الحشد الشعبي، قائلا “إن إيران لن تسمح بإقامة قواعد أميركية في العراق ما بعد داعش”. و”في حال رفضت الإدارة الأميركية النصائح الإيرانية بضرورة مغادرة قواتها العراق ستكون قواتها أمام نيران قوات الحشد الشعبي البطلة”.
ولو صرفنا النظر عن أن القواعد الأميركية موجودة باتفاق حكومي عراقي (مختوم بموافقة إيرانية سابقة)، ووضعنا جانبا حجم الدعم الأميركي للعراقيين والإيرانيين في طرد داعش من مدن سنية مهمة وعديدة، وفرض هيمنة الحشد الشعبي عليها، ورفض عودة أهلها إليها، بقيادة (المستشار) قاسم سليماني، ودققنا فقط في القدرة الواقعية لإيران نفسها، وليس لعصابات الحشد الشعبي، على مهاجمة قواعد أميركية في العراق وسوريا، لتأكد لنا أن تصريحاتهم النارية كلها ليست أكثر من غناء في حمام.

فالظاهر أنهم غير عالمين بحقيقة المتغيرات الدراماتيكية العميقة في الواقع السياسي والجغرافي والاقتصادي المحيط بالمنطقة كلها، ولا يدركون حجم ما يُدبّر لإيران أولا قبل أذرعها السياسية والميليشياوية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

والمخططات التي أعدت لتصحيح المعادلة في المنطقة لم تعد كلامية فقط، بل بدأ تنفيذها، علنا وعلى شاشات التلفزيون، ولكن بالتقسيط وعلى نار هادئة لا يراها إلا من وهبه الله العقل والسمع والبصر، وهداه النجدين، فإما شاكرا وإما كفورا.

وأول المتغيرات المخيفة لمواجهة العدوانية الإيرانية هو حجمُ الإنفاق السعودي والإماراتي المخيف على السلاح. فقد أعلن مسؤول أميركي عن اتفاقات لبيع أسلحة متطورة، بـ300 مليار للسعودية، ومليارين للإمارات، بالإضافة إلى ما دفعته دول الخليج العربي لأوروبا وروسيا والصين لشراء أسلحة وخدمات عسكرية أخرى، دون أن يشكل ذلك عبئا تعجيزيا لها يقلل أو يوقف مشاريع التنمية فيها. في حين أن ما أنفقته، وتنفقه، إيران نفسها على السلاح لحرسها الثوري والميليشيات التابعة لها، بشهادة مسؤولين عسكريين كبار في النظام الإيراني نفسه، كسَر ظهرَ الاقتصاد الإيراني، وجعل نسبة كبيرة جدا من الإيرانيين تحت خط الفقر، وهو ما صار يهدد أمن النظام نفسه. كل هذا في كفة، وفي الكفة الأهم الأخرى بالمقابل بدأ تحريك الفتنة في الداخل الإيراني، نفسه. فقد بدأت أقليات قومية وطائفية ودينية ومناطقية متنوعة تتململ وترهق الحرس الثوري الذي هب لوأد تمردها، قبل أن تصبح نارا حامية.

ولا يمكن أن يكون قادة الحشد الشعبي لم يقرأوا تصريحات قادة النظام الإيراني نفسه، وعلى رأسهم الولي الفقيه، عن مخططات الأعداء الرامية إلى تغيير طبيعة النظام تمهيدا لإسقاطه.

فقد حذر المرشد الإيراني علي خامنئي من محاولات تغيير سلوك النظام، وقال وسط حشد من قادة القوات المسلحة في كلية الإمام الحسين التابعة للحرس الثوري، إن “الأعداء يسعون لتحقيق ثلاثة أهداف: على المدى القصير زعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى والفتن وتهديد إنجازات البلد، وعلى المدى المتوسط الاقتصاد، أن تعم البطالة البلاد للتسبب بيأس الشعب من النظام، وعلى المدى البعيد، فإن تغيير أصل النظام هو الهدف”.

ودعا المرشد الأعلى مرشحي الانتخابات الرئاسية إلى “الحفاظ على هدوء البلاد، وعدم التطرق إلى مشكلات الأقليات العربية والكردية، وتحريك التصدعات العقائدية والجغرافية واللغوية والقومية”.

وفي لبنان بدأ حزب الله بتفكيك وحداته العسكرية على الحدود السورية، استباقا للترتيبات التي تشهدها المنطقة. واعتبرت مراجع سياسية وعسكرية لبنانية أن القرار دليل على أن حزب الله يريد أن يستثمر الاتفاق حول سوريا لينسحب قبل أن يُضطر إلى الانسحاب في ظل تمسك المعارضة، ودول مؤثرة في المنطقة، وكذلك الولايات المتحدة، بضرورة إنهاء الدور الإيراني في سوريا كشرط لدعم الاتفاق.

وفي سوريا تثبت الأحداث التي أعقبت الإعلان الروسي عن “مناطق تخفيف التصعيد” أن التغيير أصبح الشرط الأول الأميركي لعدم إرباك روسيا في سوريا، وإغراقها في رمالها المتحركة. فقد أعلن البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكد لوزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، خلال لقائهما بواشنطن، ضرورة أن “تكبح روسيا جماح إيران ووكلائها، ونظام الأسد”.

وسيحضر ترامب خلال وجوده في الرياض سلسلة اجتماعات مع المسؤولين السعوديين، وجلسة منفصلة مع زعماء دول مجلس التعاون الخليجي الست، وغداء مع زعماء عرب ومسلمين تم توجيه دعوة لستة وخمسين منهم لبحث مكافحة التطرف، وشن حملة على التمويل غير القانوني.

والخلاصة أن قادة النظام الإيراني، ووكلاءه العراقيين، بشكل خاص، عميان بصر وبصيرة، يرون بنادقهم وراياتهم وشعاراتهم وحدها، ولا يرون الغابة المخيفة المحيطة بهم، والتي لا ترفض وجودهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فقط، بل تعمل على إشعال الحرائق في الداخل الإيراني نفسه قبل سواه.

فالأولى والأشرف، بعد كل ذلك، أن يتمنى المدعو قيس الخزعلي سلامة رأس الهلال الشيعي، نفسه، وأن ينسى أمر البدر الشيعي المنتظر، على قاعدة “عصفور في اليد، حتى لو كان مهيض الجناح، خير من نسر قد يأتي في آخر الزمان، وقد لا يأتي”.
نقلا عن العرب